بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - "التفاوض تحت الماء" (٢)
بعد احتلالها شبه جزيرة سيناء في العام ١٩٦٧ حاولت "إسرائيل" استثمار ثرواتها ومنها حقول النفط الواقعة في خليج السويس. ولهذا الغرض استأجرت في أواخر عام ١٩٦٩ سفينة حفر تدعى "كيتنغ"، ولكن بعد مدة قصيرة وفي ٤ حزيران 1970، أعلنت الشركة الكندية للبترول، مالكة السفينة، إلغاء عقدها مع "إسرائيل" وفقا لما ذكرته صحيفة "الأهرام" فى صفحتها الأولى يوم 5 حزيران 1970، من أن "هذا الحفار نُسف فى ميناء أبيدجان فى مارس الماضى، وقالت الصحف البريطانية وقتها إن الكوماندوز ال#مصريين هم الذين نفذوا العملية، ووصفوها بأنها كانت ضربة قاصمة لمشروعات "إسرائيل" فى خليج السويس".
طبعاً الصحيفة المصرية نسبت الخبر للصحافة البريطانية لأن مصر شاءت وقتها ألّا تتبنى العملية لتجنب تداعياتها. فمن ينوي جدياً الدفاع عن مصالح بلاده يفعل ما يتوجب عليه بصمت وفعاليّة.
"أمين هويدي"، رئيس جهاز المخابرات آنذاك المصرية، روى تفاصيل العملية فى كتابه "أضواء على النكسة وحرب الاستنزاف"، منذ استئجار "إسرائيل" "الحفار" وبدء رحلته من كندا باتجاه البحر الأحمر وقرار مصر منع تنفيذ مهمته بأي وسيلة، فتم تحضير عملية كوماندوس لنسف الحفار في أحد المرافئ التي سيتوقف فيها خلال الرحلة ووقع الاختيار على أبيدجان فى ساحل العاج. وللتمويه عن العملية التي قررت مصر القيام بها، قامت باتصالات سريعة مع المركز الرئيسى للشركة الأميركية الكندية فى دنفر ألحّت فيها على طلب استئجار الحفار مقابل مبلغ أضخم مما دفعته "إسرائيل". وفى 3 اذار 1970 تم رصد وصول الحفار إلى أبيدجان وفى الساعة الخامسة فجر 8 آذار، قام أفراد الفريق المصري بوضع الألغام تحت جسم الحفار، وفى الثامنة صباحا اهتزت أبيدجان على صوت الانفجارات.
هذه القصة تكفي وحدها لجعل "إسرائيل" تحسب ألف حساب لو كان في الجانب اللبناني نية لمحاولة منعها من الوصول إلى الغاز في الحقل الذي يقع قسم منه في المياه اللبنانية. ولكنها بدت مطمئنة الى انها لن تتعرض لأي عمل في الطريق أو في الموقع.
منصة Energean العائمة لاستخراج الغاز الطبيعي التي وصلت إلى حقل كاريش كان قد أُعلِن عن انطلاقها من سنغافورة قبل أسابيع وتمت متابعة مسارها في الإعلام واجتازت قناة السويس بنجاح، والأهم أنه تم بناؤها خصيصاً لحقل كاريش، أي أن المشروع مُعلن ومعروف الأبعاد والأهداف منذ مدة طويلة. كل هذه المراحل تم اجتيازها دون خوف من الشركة أو من الجانب الإسرائيلي على هذا الاستثمار الكبير، علماً أن أن أي تهديد جدّي من جانب لبنان الرسمي أو غير الرسمي كان كفيلاً بجعل شركات التأمين تمتنع عن تغطية الرحلة والمنشأة وبعرقلة المشروع برمته.
قد يذهب البعض إلى القول بأن لبنان سيخسر فرصة البدء بالاستفادة من ثرواته في هذه الظروف القاسية التي يعانيها شعبه، أي أنه الطرف الأكثر عجلة وحاجة، ولكن العكس هو الصحيح بالنظر إلى المعطيات الدولية حول الطلب على الغاز من مصادر جديدة بسبب الحرب في أوكرانيا.
ما يحصل اليوم ليس أكثر من سيناريو هدفه الوصول إلى الوضعية التي علينا الاختيار فيها بين القبول بالنصيب الذي قرّره لنا "الوسيط" أو البقاء متفرجين على سحب الغاز من حقل كاريش. وكان الوسيط في زيارته الأخيرة قد أبدع في اقتراحه الذي يقضي بنسيان أمر الخطوط والتفاوض على الحقول باعتبار أن الغاز موجود تحت الماء وليس على سطحها. وهذا الاقتراح يريح لبنان الرسمي العاجز عن التمسك بالخط 29 والمحرج بوجود حقل مشترك يتطلب منطقياً استثماراً مشتركاً فأصبح التخلي عن الحقل أسهل من شبهة التطبيع التي تترتب على الاستتثمار المشترك.