بأقلامهم >بأقلامهم
"الريّس" جميل بيرم ... المُناضل الصادق والقاضي النزيه
جنوبيات
رحل الريّس جميل محمد بيرم، عن (83 عاماً) حافلة بالعطاء والتفاني.
رحل القاضي، والمُربّي والمُناضل، الذي وازن بين النصوص القانونية والأحوال الوضعية، والظروف الاجتماعية، فحكم روح القانون في جميع المراكز التي تبوّأها، ما كان يترك ارتياحاً، حتى لدى من يصدر بحقّه الحكم أو قرار التوقيف، لأنّه يبحث بعد ذلك عن كيفية مُساعدته، انطلاقاً من دراسة الظروف التي رافقت اقترافه الجنحة أو الجناية.
الريّس جميل، لم يتغيّر في أي مركز تبوّأه. لم تبدله الظروف والأيام. بقي مُتواضعاً وصادقاً، واضحاً وشفّافاً، نزيهاً ومُستقيماً كخط القطار لا يحيد، ويتحلّى بدماثة خلق ولياقة ولباقة.
"حكيم" زادته التجارب خبرة، يمتاز بطيبة قلبه، كما لون شعره الأبيض، والابتسامة التي لا تُفارق ثغره، يصنع من ألمه بسمة، يزرعها على الوجوه، فلا يُمكن لمَنْ تعرّف إلى الريّس جميل، إلا وترك في مُخيّلته بصمة لرجل واثق الخطوة.
نَقَشَ في الذاكرة مكانة خاصّة مُضيئة، تحفل بمسيرة محطات مُكلّلة بنجاح مُتميّز، بمُثابرة وقوّة وجودة، بعدما حفر في صخور الحياة، مُتحدياً الظروف العصيبة على مدى عقود من الزمن، ما يجعل ذلك عصياً على النسيان.
مَنْ قصده بخدمة لا يُمكن أنْ يعود خائباً، سواء في وظيفة أو واسطة لدى الأصدقاء، فهو "خدوم" إلى أقصى الحدود، وصاحب واجب، على الرغم من وضعه الصحي، فكان لا يترك مُناسبة، ترحاً أو فرحاً، أو اطمئناناً على صحة مريض، إلا ويكون المُبادر للقيام بذلك، فقد تربّى على حُب الخير، ومُساعدة الآخرين، بإيمان وتقوى وتواضع.
بين الولادة في الوردانية بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 1939، وحتى تقاعده من السلك القضائي بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 2007، وما تلا ذلك كعضو مجلس إدارة "صندوق تعاضد القضاة"، حافلة بالمحطات مع شريكة العمر الحاجة عطاف طعّان، والأسرّة المُكوّنة من الشبان الثلاثة: المُهندس محمد (رئيس مصلحة في مرفأ بيرت)، أسعد (قاضي التحقيق في بيروت) وباسل.
في منزل الحاج محمد بيرم، المُجاور لمسجد وحسينية لبلدة الوردانية، والمُطل مُباشرة على "كنيسة دخول العذراء" التابعة لأبرشية صيدا ودير القمر لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك، وعى جميل بيرم باكراً نموذج التعايش الإسلامي - المسيحي، الذي تميّزت به البلدة، وجسّده في مسيرة حياته وعائلته، والذي كرّسته العائلة، بتوزّع أبنائها، بين مُسلمين ومسيحيين، ينتشرون في مُختلف المناطق اللبنانية.
منذ نعومة أظفاره أرسلته عائلته إلى صيدا، ليتلقّى دروسه في "مدرسة فيصل"، التابعة لـ"جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" داخل البلدة القديمة، إيماناً بأولوية العلم وأهميته، فنهل منه ما استطاع.
هناك كانت البداية مع العمل النضالي، وأنْ يعيش مع زملائه الطلبة الفلسطينيين مظلومية قضيتهم، والعمل على نصرة أهلها، في ذروة انتصار ثورة الضبّاط الأحرار في مصر بتاريخ 23 تموز/يونيو 1952، التي يرحل عشية ذكراها الـ70، وفي "المقاصد" تعرّف إلى كُثُرٍ، وبينهم رفيق بهاء الدين الحريري، الذي أصبح لاحقاً رئيساً لوزراء لبنان. ناضل من أجل القضية الفلسطينية، في صفوف "حركة القوميين العرب".
بدأ بمُمارسة التدريس في صيدا، قبل أنْ يتوجّه نحو القضاء، الذي بدأ مسيرته مُنذ سبعينيات القرن الماضي، وعلى مدى أكثر من 35 عاماً، فتبوأ القاضي بيرم العديد من المراكز، وتسلّم ملفّات هامّة، خاصة في المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت، التي كانت تقع على خط تماس بين شطرَيْ العاصمة الغربية والشرقية خلال الأحداث الأليمة بدءاً من 13 نيسان/إبريل 1975.
وبعدما شكّل الرئيس رفيق الحريري حكومته الأولى، وأعلن عنها في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1992، جرى الحديث عن تشكيلات قضائية، وطَرِحَ أنْ يتولّى منصب النائب العام الاستئنافي في الجنوب قاضٍ من الطائفة السنية، فيما تمسّك رئيس المجلس النيابي نبيه بري بقاضٍ شيعي.
جرى استعراض الأسماء، وإذ بالرئيس الحريري يتصل بأحد الأصدقاء المُشتركين، مُستفسراً: "هل الإسم المطروح لتولّي المركز أي "القاضي جميل بيرم"، هو ذاته رفيقنا في "حركة القوميين العرب"؟"، فكان الجواب: "نعم"، وهكذا تمّت تزكية الريّس جميل لتولّي منصب النائب العام الاستئنافي في الجنوب في العام 1993، ومُنذ ذلك التاريخ توطّدت علاقتي بصديق والدي في "حركة القوميين العرب".
يوم الثلاثاء في 8 حزيران/يونيو 1999، كان المُقرّر أنْ يحضر القاضي بيرم جلسات محكمة جنايات لبنان الجنوبي، لأنّ المُحامي العام الاستئنافي في الجنوب القاضي عاصم أبو ضاهر، كان مُصاباً بـ"الزكام"، لكن وجد نفسه وقد تحسّن، فوصل وحضر الجلسة.
في الساعة الثانية عشرة والدقيقة العاشرة ظهراً، وأثناء انعقاد جلسات المحكمة، أقدم مُسلّحان على إطلاق النار بغزارة على قوس القضاة في المحكمة، عبر نافذتين مُطلّتين على موقف السيّارات الواقع خلف المبنى، ما أدّى إلى استشهاد: رئيس محكمة جنايات لبنان الجنوبي القاضي حسن عثمان، المُحامي العام الاستئنافي في الجنوب القاضي عاصم أبو ضاهر، المُستشار لدى محكمة جنايات لبنان الجنوبي القاضي عماد شهاب ورئيس المحكمة الابتدائية في الجنوب والعضو المُستشار في محكمة الاستئناف القاضي وليد هرموش، وإصابة عدد من الأشخاص بجراح.
بعدما نجا القاضي بيرم من مُحاولة الاغتيال، نزل من مكتبه في الطبقة الثانية إلى قاعة محكمة الجنايات، حيث شاهد دماء زملائه القضاة الشهداء الذكية مُضرجةً على الحضيض، فأُصيب بأزمة، أدّت إلى مُضاعفات وكسل في الكلى، فأصبح بحاجة إلى غسل الكلى 3 مرّات أسبوعياً.
بعد 10 سنوات أمضاها الريّس جميل في النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب، في أحلك الظروف وأصعبها، تسلّم رئاسة الهيئة الاتهامية في بيروت، قبل إحالته على التقاعد بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 2007.
بقي التواصل قائماً، حيث كُنتُ أطمئن إلى صحّته، إما عبر اتصال هاتفي أو زيارته في فصل الصيف بدارته في بلدة الوردانية، وحرصه على المُشاركة في المُناسبات الخاصة التي أُقيمها، أو توقيعاً لإصدار الكتب أو العشاء السنوي في دارتي.
كم كانت فرحة الريّس جميل كبيرة، بتعيين نجل ابن عمّه وصديقه الراحل الريّس حسين بيرم، مصطفى، وزيراً للعمل في حكومة "معاً للإنقاذ"، برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، يوم الجمعة في 10 أيلول/سبتمبر 2021، حيث أغرورقت عيناه، وهو يُعانق الوزير مصطفى، في استذكار والده، الذي بقي بيته وسط بلدة الوردانية مفتوحاً بعد رحيله يوم الخميس في 17 آب/أغسطس 2017.
خلال إحدى الزيارات إلى النائب العام المالي في لبنان القاضي الدكتور علي مصباح إبراهيم، كنّا نتحدّث عن الريّس جميل بيرم وخدماته، فإذ بزوجته المُحامية سامية فارس، تقول: "إنّ فضل "الريّس جميل" ليس فقط على أبناء الوردانية، بل على حجارتها".
رحيل الريس جميل، خسارة كبيرة، كنت كلما التقيه يستقبلني بالترحاب "أهلاً بابن خي" والترحم على صديقه، والدي، فكنت أشعر بأن مكانته أبوية، واليوم أشعر بفقدان غالٍ له مكانة الوالد.
رحم الله الريّس جميل، وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومُحبيه الصبر والسلوان،
هذا النموذج الذي نحن أحوج ما نكون إلى أمثاله اليوم.