حوارات هيثم زعيتر >حوارات هيثم زعيتر
قضية المُطران الحاج بين المُعالجة القانونية والتجاذب السياسي
دوافع تجميد "قانون العفو العام" والمُقايضة بين "الموقوفين الإسلاميين" وعُملاء العدو
جنوبيات
يُشكّل أي من الملفات مادة خلافية بين السياسيين، فكيف الحال إذا كانت قضية تتعلق برجل دين، ما يزيد التأزّم، في ظل مُحاولات كل فريق التعامُل مع هذا الملف من حساباته الخاصة، وتصوير الأمر وكأنه مصيري ويضرُّ بالميثاقية والتعايُش؟!
لكن، في حقيقة الواقع، فإن كل من الأطراف ينظر إلى القضايا من زاويته الخاصة، التي تتناسب وحساباته الطائفية والمذهبية بشكل عام، والشخصية والذاتية بشكل خاص، من دون أن يكون للمصلحة الوطنية العامة أولوية، وإن تم تصوير الأمر كذلك!
هذا يُشعر كُثر أن حقوقهم مهدورة، قياساً على استباحة البعض لها، على الرغم من التزامهم بواجباتهم.
لا شك، أن أي من القضايا أصبحت تتأثر سياسياً بتجاوز الدستور والقانون، حيث يتبارى كل فريق باختيار ما يُناسبه من المواد القانونية، بل من فقراتها.
لم تكُن قضية راعي أبرشية حيفا والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية لدى الطائفة المارونية المُطران موسى الحاج، الأولى في الملفات المُتشابكة، وأيضاً لن تكون الأخيرة، إذا لم يقُم السياسيون أنفسهم، ومن يتحكمون بالكُتل النيابية المُؤثرة على التشريع في مجلس النواب، بتعديل القوانين التي يُصدرونها، وأن تكون وفق المصالح التي يجب أن تُنفذ، وليس مصالحهم!
الأخطر هو الاستنسابية والاجتهاد في التنفيذ، وهذا يحتاج إلى تعديل جدّي لكل القوانين، بوضع الضوابط، والعمل على تنفيذ هذه القوانين وليس بقاء بعضها حبيساً في الأدراج.. والمُقايضة في ملفات، بعضها يكون قد رُفض المساس بها سابقاً، لكن التسوية تقتضي ذلك!
لن نغوص فيما جرى مع المُطران الحاج، المُكلف بالانتقال من لبنان إلى الأراضي الفلسطينية المُحتلة، بتكليف من الكنيسة المارونية، ومُوافقة الدولة اللبنانية والجيش، عبر "معبر الناقورة" المُقفل إلا باستثناء السماح لعدد قليل من رجال الدين المسيحيين بالعبور من خلاله، وقوات "اليونيفل"، لكن مع التقيّد بالإجراءات القانونية والتفتيشات الأمنية.
وفق القانون اللبناني، لا يحق لأي كان نقل أموال من محكومين بالتعامُل مع العدو الإسرائيلي، من الذين فرّوا معه لدى اندحاره عن الأراضي اللبنانية في 25 أيار/مايو 2000، وفضّلوا البقاء هناك.
فيما كُثر ممن اعتبروا أنفسهم أنهم أخطأوا بالرهان على العدو، غادروا إلى بلدان أخرى، واكتسبوا جنسياتها، والعديد منهم سقطت عنهم المُلاحقة بتهمة التعامُل والتواصُل مع العدو، بعدما ثبت انقطاعهم عن ذلك مُنذ مُغادرتهم الأراضي الفلسطينية المُحتلة.
أما من بقي هناك، فتنطبق عليه مواد القانون اللبناني، الذي يُوجب المُحاكمة على استمرارية التعامُل مع العدو.
لم تكُن المرة الأولى التي ينقل فيها المُطران الحاج أموالاً وأدوية من عائلات عُملاء في الأراضي الفلسطينية المُحتلة إلى أهلهم وأُسرهم وأقارب لهم في لبنان.
وقد جرى لفت النظر إلى ذلك مراتٍ عدّة، وطُوي هذا الملف أكثر من مرة، ولم يتم تحريكه في النيابة العامة العسكرية، إلى أن كانت العودة، يوم الاثنين في 18 تموز/يوليو 2022، وبحوزة المُطران الحاج أموالاً تتجاوز قيمتها 600 ألف دولار أميركي، مُوزعة على 16 محفظة، بينها من دُوّن عليها أسماء، وأخرى من دون ذكر أسماء، مع كمية من الأدوية، وهو ما استغرق 11 ساعة من ضبط الموجودات في مركز الأمن العام في الناقورة، الذي كان يُنفذ إشارة مُفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت بالإنابة القاضي فادي عقيقي، بضبط ما بحوزة المُطران، من أموال وأدوية، وهاتفه الخاص، وجواز سفره، مع إبلاغه بضرورة عدم مُغادرة الأراضي اللبنانية من دون إذن مُفوض الحكومة.
لتعديل المواد القانوية
حتى لا تتكرر هذه القضية وغيرها، يجب الحسم بشأن المواد القانونية لجهة موضوع نقل الأموال من عُملاء أو التعامُل مع عُملاء، لأن هناك من يعتبر أن العُملاء مع العدو الإسرائيلي، الذين كانوا في "ميليشيا العميل سعد حداد"، مُنذ إنشائها في العام 1976، ومن ثم مع "العميل أنطوان لحد" في العام 1984، وفرّوا مع الاحتلال، هؤلاء اضطروا إلى ذلك، نظراً إلى الظروف التي كانت تمُرّ بها المنطقة الحدودية المُحتلة.
هذا علماً بأن كُثر رفضوا الالتحاق بالميليشيا العميلة، ودفعوا الضريبة بأن زُج بقسم كبير منهم في "مُعتقل الخيام" وغيره من المُعتقلات، وحتى بعض من فروا مع الاحتلال، فقد غادر أكثر من 5 آلاف شخص الأراضي المُحتلة، بينهم من عاد إلى لبنان عبر "معبر الناقورة" فتسلمه "الصليب الأحمر الدولي"، الذي نقل النساء والأطفال مُباشرة إلى منازلهم، فيما أوقفت الأجهزة اللبنانية الرجال، وحوّلتهم على القضاء العسكري، الذي حاكمهم وصدرت بحقهم أحكام، واعتبرت مُخفضة!
وبينهم من تُوفي وأُعيدت جثامينهم لدفنها في بلداتهم اللبنانية.
وهناك من غادر إلى الولايات المُتحدة الأميركية، كندا، أستراليا، ألمانيا، بلجيكا والسويد، وبينهم من نال جنسياتها.
وبقي يتواجد داخل الأراضي الفلسطينية المُحتلة حوالى 2500 شخص.
هذا علماً بأن من فرّ مع الاحتلال، نال مُكافآتٍ مالية، قيمة كل منها بين 30-40 ألف دولار أميركي، كتعويض على سنوات التعامُل وخيانة الوطن.
يعود مُجدداً طرح ملف عائلات العُملاء الفارين إلى الأراضي الفلسطينية المُحتلة، وليس "اللاجئين اللبنانيين إلى إسرائيل"، كما يريد البعض توصيفهم، لأن مُصطلح اللاجئ يُطلق على من يُقتلع من أرضه بشكل قسري وليس الذهاب بشكل طوعي، التحاقاً بالعدو.
طرح هذا الملف يستوجب مُعالجته، بأن يتم تشكيل هيئة خاصة تدرُس كل حالة بذاتها، لأنه لا يُمكن أن يتم التعامُل مع الجميع بالوضعية ذاتها، لعدم التطابُق في الكثير منها.
عملاء وليسوا لاجئين!
هناك من يُجاهر بتسميتهم "اللاجئين اللبنانيين إلى إسرائيل"، وفي طليعة هؤلاء، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي ومُنذ أن كان يترأس "تكتُل التغيير والإصلاح"، تقدم بمشروع قانون لمُعالجة أوضاع "اللاجئين اللبنانيين إلى إسرائيل".
لكن، هذا الملف يدخل في إطار التجاذب، لأنه، وإن كان كُثر يعتبرون التعامُل "وجهة نظر"، فإن آخرين يرون في ذلك خيانة للوطن، تستوجب مُحاكمة الذين باعوه وخانوه لصالح العدو.
أيضاً، فإن هناك ضرورة لمُعالجة أوضاع الذين وُلدوا داخل الأراضي الفلسطينية واخضاعهم لفحص "DNA" لإثبات لبنانيتهم، حتى لا يزج العدو من نسله في التركيبة اللبنانية!
كذلك، هناك حاجة إلى دراسة كيف سيتم التعامُل مع الزيجات التي حصلت هناك والشهادات المدرسية والجامعية.
يجب إقرار القوانين، خاصة فيما يتعلق بشأن التعامُل مع العدو، مع استمرار اكتشاف شبكات تجسُس المُتغلغلة داخل الأراضي اللبنانية، والتي ما زالت الأجهزة الأمنية اللبنانية توقف المزيد من أفرادها.
وإذا لم يتم تعديل المواد القانونية، فإن كُثر من العُملاء سيستفيدون من القوانين سارية المفعول، وسيتم تبرأتهم، مُستفيدين من الثغرات القانونية، كما جرى مع العميل عامر الفاخوري، الذي استفاد من ثغرة قانونية، لأن لجنة الإدارة والعدل النيابية التي عقدت جلسةً لها برئاسة النائب جورج عدوان في 21 كانون الثاني/يناير 2020، وعدّلت مواد قانونية، لم تُعدّل المادة الثالثة من القانون رقم 65 بتاريخ 20 تشرين الأول/أكتوبر 2017، بإلغاء مرور الزمن عن جرائم مُناهضة التعذيب، ما جعل العُملاء والفارين والمُجرمين يستفيدون من هذه الثغرة!
"بازار" التجاذب والمُقايضة
يدخل ملف التعامُل "بازار" التجاذب والاستثمار السياسي، ما يُؤدي إلى انعكاسه سلباً على الواقع اللبناني المُتأزم، خاصة في ظل الحاجة إلى عدم المُقايضة في ملفات، بل ضرورة إقرار قوانين حاسمة لها.
هنا تبرز قضية "الموقوفين الإسلاميين"، الذين لم تُنجز المُحاكمات العادلة في ملفات العديد منهم، وبينهم من يتبين أنه أمضى فترة أطول من المُدة التي سيُحاكم بها، وبين هؤلاء من ارتكبوا جُنحاً!
ضروري مُحاكمة من ارتكب جرائم وأراق دماء، وانزال العقاب به.
المُفارقة أن الحديث كان يدور عن "قانون عفو عام"، لكن اصطدم بعقبتي "الموقوفين الإسلاميين" والعُملاء، فأراد البعض المُقايضة فيما بينهما.
هذا علماً بأنه عندما يُريد السياسيون - وتكون لهم مصلحة بذلك - يتم إصدار عفو، وهو ما استفاد منه (الرئيس) عون بتاريخ 28 آب/أغسطس 1991، بمُوجب المرسوم رقم 1637/91، الذي نصت مادته الأولى على "منح كل من الضُباط السابقين: ميشال عون، إدغار معلوف وعصام أبو جمرا، عفواً خاصاً له مفاعيل العفو العام عن الجرائم المُحال بها على المجلس العدلي، بمُوجب المرسوم رقم 656 الصادر في 19/10/1990، شرط مُغادرته البلاد خلال 48 ساعة من تاريخ صدور هذا المرسوم، وبقائه في الخارج مُـدّة 5 سنوات اعتباراً من تاريخ المُغادرة"، وهو ما تمَّ، حيث غادر إلى فرنسا.
واستفاد عون بعودته إلى لبنان بتاريخ 7 أيار/مايو 2005، من إسقاط محكمة جنايات بيروت برئاسة القاضي ميشال أبو عراج عنه، قبل يومين، دعوى الحق العام.
كما استفاد رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع من قانون العفو في مجلس النواب، في جلسته التي عقدها بتاريخ 18 تموز/يوليو 2005، وأقرّ فيها العفو عن جعجع وموقوفي "مجدل عنجر" و"الضنية" بالقانونين رقم 677 و678، على الرغم من وقوع شُهداء للجيش اللبناني وضحايا أبرياء!