بأقلامهم >بأقلامهم
"في الشّعوذة وفنون السّحر"
جنوبيات
الشّعوذة، وبرأي المرجع اللّغوي الكبير عبد الله العلايلي : الشّعبذة ، كلمة راجت وماجت في سياقات الحديث عن السّحر وفنونه ، كما عن طرائق الإحتيال ومجونه .
وتتّفق الشّرائع السّماوية والمذاهب الفلسفية على تحريم الشّعبذة وفنون السّحر الأسود ؛ وترى أنّ هذه المهنة ، من الإمتهان ، لعلّها أن تكون من أقدم المهن التي أقدم عليها طبقة رجال الدين والعلوم الرّوحانية ، من أجل الإستحواذ على العامّة وإخضاعهم وابتزازهم . ولا يضارع هذه المهنة قدماً إلّا مهنة البِغاء المعروفة ب: ( البِغاء المقدّس ) لكن شتّان بين المهنتين والمعنيين ؛ اذ تظلّ مهنة البِغاء أقلَّ خطراً وأضعف أثراً على كيانات المجتمعات الإنسانية ، والحرّية الفردية ، من مهنة تتستّر بلبوس الدّين وعباءة الروح مُخضعة فريستها إلى ما يُسمى عند علماء الإجتماع والإنثروبولوجيين ب: ((العبودية غير المختارة )) .
- المشعبذ أو السّاحر ؛ مفردتان مرعبتان ، تتجافى عنهما آذاننا مذ كنّا صغاراً ، ولا نتخايل عند سماعهما إلّا القصور المسكونة بالأشباح أو البراري المأهولة بالجن والعفاريت والسّعالي والغيلان.
- لا أذكر هذه الكلمات لأتّخذ منها أيّ موقف اعتقادي . وإنّما أمرّ عليها كذكرٍ اعتياديّ من ذاكريّات الطفولة وارتجاعيات الكهولة .
- وحريّ بالتنويه هنا أنّ موقف الفقهاء في كلّ المذاهب الإسلامية ، كما وأنّ رأي اللّاهوتيين في كلِّ الطّوائف المسيحيّة يتفقان على أنّ عمل السّحر والشّعبذة ينافي تعاليم الدّين الحنيف ، والصّراط القويم المنيف.
- بل إنّ بعض المذاهب الإسلاميّة والكاثوليكيّة يفتيان بقتل السّاحر منعاً لضرره العام على الإجتماع ومصالح الأنسنة .
- وإنّي ، وإن كنت أختلف مع القائلين ب: الموت حداً وقصاصاً أو عقوبة رادعة تحت أيّ ظرف كان باستثناء جرائم القتل العمدي وعن سابق تصوّر وتصميم ، لكنّي هنا في سياق تقرير ما عليه الفقهاء واللّاهوتيين . وشواهد التّاريخ القروسطي ناطقة بمشاهد ومسارح تلك العقوبة التي أنزلت بالسّحرة على مدى قرون .
- وأختم من موقعي المعرفي ومحيطي العائلي بتبيان أنّ ما شاع على ألسنة الناس من حديث يُنسب إلى نبيّ الإسلام ، عليه وآله السّلام وهو : " تعلّموا السّحر ولا تفعلوا به " لم يثبت صدوره عنه وإن كان مشهوراً منذ زمنٍ باعدٍ .
- وأخيراً ومن منطلق المعرفة الدّينية والإجتماعية وقبل التّطرّق إلى النّاحية القانونيّة : ما الشّعبذة إلّا طرائق تمويه ، وحبائل اصطياد ، يقع في شباكها الأغرار وضعاف الإيمان . فضلاً عن أولئك الّذين لا همَّ لهم إلّا أن يظهروا بمظهر أصحاب الخوارق في استعادة غير واعية منهم لزمن ( البطولة) وتاريخ (الأسطورة) .
- أمّا في القانون ، فإنّه لم يرد نصٌّ في قانون العقوبات اللّبناني تحت "باب" أو "فصل" يتعلّق بالشّعوذة والسّحر والتّنجيم ، وذلك بشكلٍ واضحٍ ؛ كما ورد في بقيّة الجّرائم ، كالقتل ، والاغتصاب ، والجرائم الّتي تمسّ الشّعور الدّيني ، والإحتيال ، والسّرقة .. إلخ....
- إنّما ورد النّصّ تحت عنوان : المخالفات الّتي تمسّ الثّقة العامّة .
- وهذا النّصّ قد ورد في الفصل السّادس من " الباب" الثّاني عشر المتعلّق ( بالقباحات ) .
- نصّت المادة ٧٦٨ من قانون العقوبات اللبناني :
- يُعاقب بالتوقيف التّكديري وبالغرامة من عشرة آلاف إلى عشرين ألف ليرة لبنانية من يتعاطى "بقصد الربح " ، مناجاة الأرواح ، والتنويم المغناطيسي ، والتّنجيم ، وقراءة الكفّ ، وقراءة ورق اللّعب وكلّ ما له علاقة "بعلم الغيب" ، وتُصادر الألبسة والعِدد المستعملة .
- يُعاقب المكرّر بالحبس حتى ستة أشهر وبالغرامة حتى المئتي الف ليرة ، " ويُمكن إبعاده اذا كان أجنبيّاً " .
- للأسف ، هناك نقص في التّشريع لهذه النّاحية ما لم ترتبط جريمة التّنجيم بجرائمَ أخرى .
- ولتبيان ذلك ، فإذا كان الفعل منحصراً بالتّنجيم فقط دون ارتباطه بجرائمَ أخرى ؛ هنا يُعتبر الفاعل قد ارتكب مخالفة تمسّ بالثّقة العامة .
- أمّا إذا ارتبط فعل التّنجيم والشّعوذة بجرائمَ أخرى ، فهناك مسمّى آخر للفعل . وللدلالة على ذلك ما جاء في المادة ٥٠٤ من قانون العقوبات : "يُعاقَب بالأشغال الشّاقّة المؤقّتة من جامع شخصاً غير زوجه (أي دون زواج) لا يستطيع المقاومة بسبب نقص جسديّ "عاهة" أو نفسيّ أو "بسبب ما استُعمل نحوه من ضروب الخداع" ".
- وبتاريخ عملي في النّيابة العامّة ، أوقفت الكثيرَ من المشعوذين وأحلتهم على المحاكمة " بعد صدور قرار إتّهامي بحقّهم" بجرائم الإغتصاب نتيجة لأعمال الشّعوذة والسّحر و (ما يُسمّى بالكتيبة ) مثال على ذلك : شخص قام بخداع امرأة حملت منه اعتقاداً منها أنّ زوجها هو والد الجنين ، بينما تبيّن بالتحقيق أنّ المشعبذ او المشعوذ هو الوالد الحقيقي بعد أن أخضع الإمرأة للتنويم المغناطيسي .
- هنا الفعل قد أصبح جناية من خلال فعل الشّعوذة وفنون السّحر ، أي أنّ الإغتصاب كان بسبب فعل الشعوذة والتّنويم المغناطيسي .
- وقِسْ على ذلك في جرائم الإحتيال عند تلفيق الأكذوبة بالتّنسيق مع شخص آخر مشعوذ وكذلك السّرقة والتّحريض عليها من خلال السيطرة والإيحاء إلى ما هنالك .
- كما أنّه يمكن أن يؤدّي التّنجيم وقراءة الغيب إلى جرائم الإعتداء على أمن الدولة الخارجي والدّاخلي والجرائم الّتي تمسّ الشّعور القومي والدّيني ، والحضّ على الفجور ، والفتنة والاقتتال الطائفي ، والتعرّض إلى الوضع الإقتصادي ؛ كلّ هذه الجرائم ممكن أن تحصل من خلال أفعال الشّعوذة وفنون السّحر . تحريضاً أكان أم اشتراكاً أم تدخّلاً أو فاعلاً معنويّاً من خلال استخدام البسطاء عن طريق تنويمهم مغناطيسيّاً أو عن طريق الإيحاء أو ما شابه .
- ومن هذا المنطلق قد تصل عقوبة المنجّم إذا ما ارتبطت بجريمة أخرى كالتّحريض على القتل عن سابق تصوّر وتصميم إلى الإعدام .
- وأخيراً وليس آخراً ، لا يجرّم المشترع اللّبناني من يلجأ إلى العرّافين والمنجّمين أو السّحرة .
- لكن : إذا ثبت للقضاء أنّ الدّافع للّجوء إليهم هو بهدف ارتكاب جريمة معيّنة ، هنا يكون التّجريم قد وقع على الجرم المنشود والمطلوب ارتكابه من قِبل من يلجأ إلى الشّعوذةوالتّنجيم .
- صفوة القول : هناك تقصير واضحٌ في التّشريع اللّبناني وأطالب السّلطات المعنيّة إمّا عن طريق إحالة مشروع أو إقتراح قانون الى المجلس النيابي بغية إقرار قانونٍ ؛ يؤدي إلى تشديد العقوبة بمقدار الغاية المراد تحقيقها من اللّجوء إلى الشّعوذة والتنجيم .ولا ضرر على الإطلاق بالوصول إلى عقوبة جنائية ..