بأقلامهم >بأقلامهم
العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية أمام منعطف جديد؟ كلا!
جنوبيات
التساؤلات المتزايدة في الأوساط الأميركية حيال طبيعة العلاقات «التاريخية» مع إسرائيل لم تصل إلى مرحلة تفرض فيها على واشنطن إعادة النظر بشكل جذري وشامل في علاقاتها العميقة مع تل أبيب التي لا تماثلها علاقة الولايات المتحدة مع أي دولة أخرى في العالم. ومقولة أن الأكلاف التي تتكبدها واشنطن تفوق بأضعاف المكاسب التي تحققها من هذا التحالف الصلب أيضاً تبقى قاصرة عن إحداث تغيير المقاربة الاستراتيجية في هذا الملف.
كما أن المخاوف التي عبرت عنها شخصيات مختلفة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل حيال حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة التي وُصفت بأنها «الأكثر راديكالية في تاريخ إسرائيل» ليست كافية للدفع في اتجاه تبني واشنطن لسياسات أكثر اعتدالاً حيال فلسطين والفلسطينيين، رغم التكرار اللفظي للرئيس الأميركي جو بايدن لشعار «حل الدولتين» من دون إقران ذلك بأي خطوات سياسية أو عملية على الأرض.
صحيحٌ أن كلام وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في مؤتمر اللوبي اليهودي اليساري الموالي لإسرائيل «جي - ستريت» من أن بلاده تنوي التعامل مع «سياسة الحكومة الجديدة وليس مع أشخاص محددين موجودين فيها»، ربما يخفي توجساً ما من الاتجاهات المستقبلية للسياسات الإسرائيلية، من دون أن يعني ذلك مجرد التفكير في الضغط على إسرائيل أو «فرط» التحالف معها بطبيعة الحال.
أما الانتقادات العديدة التي سُمعت في الكونغرس الأميركي، لا سيما في صفوف الحزب الديمقراطي، حول تركيبة الحكومة الإسرائيلية الجديدة و«التخوف على حقوق الإنسان» لا ترقى بدورها لتشكل رافعة ضغط مجلسي في إطار اللعبة السياسية الداخلية الأميركية، ذلك أن الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، متفقان على حماية إسرائيل ودعمها والحفاظ على العلاقة الاستراتيجية معها مهما تبدلت الظروف، وتكاد لا تتجاوز «الاعتراضات» اللفظية سوى تسجيل مواقف لا أكثر ولا أقل.
قد يكون توقف البعض عند الافتتاحية الشهيرة التي كتبتها هيئة تحرير صحيفة «نيويورك تايمز» في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) 2022 واعتبرت فيها أن «حكومة نتنياهو تشكل تهديداً لمستقبل إسرائيل»، وأن على «إدارة بايدن مساعدة القوى المعتدلة في السياسة الإسرائيلية في جهودها ضد الخطوات التي تخطط لها الحكومة الجديدة». صحيحٌ أن هذا الكلام لافت، لكن روحيّته تصب في صلب سياسة الحرص على إسرائيل وأهمية استمرارها كدولة يهودية والخوف عليها وليست من باب الانتقاد مطلقاً.
لقد انكفأت إدارة الرئيس بايدن عن الانغماس المباشر في قضية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ولعلها باتت أكثر قرباً للإقرار بعدد من الوقائع (ولو بشكل خفي وغير معلن) التي أصبحت من وجهة نظر إسرائيل، على الأقل، بمثابة مكتسبات لا يمكن العودة عنها. فإدارة بايدن لم تعد سفارتها إلى تل أبيب بعد أن كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد قرر نقلها سنة 2017 إلى القدس التي اعترف بها أيضاً كعاصمة لإسرائيل.
وإذا كانت واشنطن لا تزال تعتبر أن «اتفاقات أبراهام» لا تحل محل السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، إلا أنها لم تنكث بها أو تذمها وهي شجعت وتشجع على الخطوات التطبيعية بين إسرائيل وبعض الدول العربية ولو أنها في المقابل أعادت تحريك مساعداتها للفلسطينيين ولمنظمة «الأونروا» لغوث اللاجئين الفلسطينيين التي كان أوقفها أيضاً الرئيس السابق دونالد ترمب.
وبالحديث عن المساعدات الأميركية إلى تل أبيب، خُصصت أكثر من نصف المساعدات الأميركية إلى الخارج في السنة المالية 2022 إلى إسرائيل وحدها. كما أن واشنطن تواظب منذ توقيع مذكرة التفاهم سنة 2016 على تقديم مبلغ سنوي ثابت إلى إسرائيل يصل إلى 4 مليارات دولار من بينها 500 مليون دولار للدفاع الجوي والصاروخي. ويتبين بمقارنة حسابية بسيطة (مع معانيها السياسية طبعاً)، أن الدعم الأميركي للفلسطينيين لم يتجاوز مبلغ 5 مليارات دولار امتدت على نحو 25 عاماً بين عامي 1994 و2018.
لقد نجحت إسرائيل طوال عقود في تقديم نفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأن ثمة «واجباً أخلاقياً» على الولايات المتحدة بدعمها انطلاقاً من القيم المشتركة التي تتقاسمها في قضية حقوق الإنسان والحريات وسوى ذلك من العناوين البراقة التي ترتطم يومياً بالسلوكيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي لا تتوانى عن ضربها عرض الحائط من خلال سياسات التهجير والتنكيل بالفلسطينيين، وصولاً إلى القتل المباشر كما حصل مع الصحافية شيرين أبو عاقلة والعشرات من المدنيين والأطفال الأبرياء.
تجاهر الصفحة الإلكترونية لمجموعة الضغط اليهودي الأقوى في واشنطن «آيباك» بأن «إسرائيل، بخلاف حلفاء واشنطن الآخرين، تحمي نفسها بنفسها وهي تطلب من واشنطن مساعدتها في الأدوات الكفيلة بتحقيق ذلك دون أن تضحي بجنودها في سبيل هذا الهدف». الأكيد أنه لولا الدعم السياسي والعسكري والمعنوي الكبير الذي تقدمه واشنطن إلى إسرائيل (دون إغفال طبعاً الجهوزية الدائمة لاستعمال حق النقض في مجلس الأمن لحمايتها)، لما تمكن الاحتلال الإسرائيلي من البقاء والاستمرار لعقود دون أن يخضع للقانون الدولي في أي من الانتهاكات الهائلة التي يمارسها يومياً على الأرض.
من الواضح أن أي رهان على انفكاك قريب للعلاقات الأميركية - الإسرائيلية الوطيدة هو رهان خارج المنطق السياسي وخارج السياق التاريخي الذي باتت معروفة مساراته ومآلاته، وهي مؤلمة وشاقة وقاسية.