بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - فصل من السيرة القضائية
بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري أرسل الأمين العام للأمم المتحدة بعثة تقصي حقائق إلى بيروت للتحقيق في الأسباب والظروف ونتائج الاغتيال برئاسة الضابط الأيرلندي بيتر فيتزجيرالد. اتهم تقرير البعثة السلطات اللبنانية بعدم التحقيق في الجريمة بجدية كافية والفشل في متابعة التحقيق وفقًا للمعايير الدولية. وانطلاقاً من خلاصات ذلك التقرير بدأ مسار التحقيق الدولي وأنشأت المحكمة الخاصة، ومنذ ذلك الحين بدت العدالة مستحيلة في لبنان.
اليوم تتزايد المطالبات بتحقيق دولي في جريمة تفجير المرفأ التي قتلت ودمرت عاصمةً وآمال شعب بكامله. والمطالبات وإن بدت محقّةً بسبب التعثّر الداخلي المستمر فإنها لا تبدو مسموعة من الخارج الذي عمل المعنيون فيه على احتواء تداعيات التفجير لإبعاد الاتهام فيه عن العدوّ، رغم انزلاق رئيس حكومته بدايةً إلى تبنيه ورغم تصريح رئيس الولايات المتحدة بوقوع اعتداء.
حضرت على إثر تفجير المرفأ فرق من المحققين من عدة دول كبرى وعاينت موقع الانفجار، وامتنعت الدول التي تحوز صور الأقمار الاصطناعية التي توثق ما جرى قبل وبعد وأثناء التفجير، عن تسليم تلك الصور وما تزال، وبدلاً من ذلك حضر بعضها مؤخراً إلى لبنان متدخلاً في التحقيق تحت عنوان المساعدة القضائية، هذه المساعدة التي سبق لدول تلك الوفود إهمالها في الاتجاه المعاكس.
بسبب ذلك انحصر مسار التحقيق بالشق الداخلي المتعلق بمن علموا بأمر المواد المتفجرة وأهملوا افتراضاً القيام بما كان ليحول دون الانفجار. وأجريت تجارب متتالية لمعرفة ما إذا كانت أعمال تلحيم باب العنبر تتسبب باشتعال النار في داخله وكأنه بذلك استُبعدت فرضية الاعتداء التي كانت وما تزال الأقرب إلى الحقيقة.
يبدو أن الصاروخ الذي أصاب العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 أصاب أيضاً قصر العدل في بيروت وبقي فيه حتى انفجر بدوره وأطاح ليس بالمبنى بل بمن فيه. وأمام هول الانفجار لم يعد مهما البحث في العلل القانونية والمسوغات لما حصل طالما أن التحقيق منذ البداية مُنع من الوصول إلى وسائل الإثبات التي تُظهر حقيقة الفعل المؤدي إلى حصول الانفجار.
"بيروت أم الشرائع" هو اللقب الذي استحقته المدينة في العصر الروماني بفضل مدرسة حقوقها الشهيرة والتي استمرت حتى الزلزال الذي دمرها في القرن السادس، لم تكفّ يوماً عن العودة إلى الحياة وفي ميدان الحقوق تحديداً وفي العصر الحالي كان لها أيضاً بعض من السمعة بفضل رجال القضاء والقانون المعاصرين. وعلى مثال بابنيانوس الذي أمر الامبراطور كركلّا بقطع رأسه لأنه رفض إعطاءه فتوى تبرر قتل الامبراطور لشقيقه ليتفرّد بالحكم، كان عندنا رجال دفعوا حياتهم في سبيل الحقّ.
في كتاب "صفحات من السيرة القضائية في لبنان"، روى القاضي بسام الياس الحاج مآثر كوكبة من القامات القضائية وآثارها ولمحات من تاريخ القضاء وتاريخ لبنان منذ تأسيس "العدلية على يد الرئيس شارل دباس أيام الانتداب وحتى مطلع تسعينات القرن الماضي. قراءة الكتاب تحمل على المقارنة بين الأمس واليوم وهي مقارنة تنسحب على سائر وجوه تاريخنا المعاصر ما قبل وبعد تفكك أوصال الدولة.
مما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من القضاة الحاليين في لبنان ينتمون فكرياً وروحياً إلى تلك السيرة رغم كل ما عانته العدالة عندنا من يدٍ وُضعت عليها وتقاسم لمواقع النفوذ فيها. والسؤال اليوم مطروح على من تبقّى من حرّاس العدالة حول الفصل الذي سيكتبونه في السيرة القضائية، والقصة لا تُروى إلّا بخواتيمها.