بأقلامهم >بأقلامهم
من الصين الى زواريب لبنان
جنوبيات
لم تكد تمرّ ساعات على الإعلان عن الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين برعاية صينية وتتويجاً لاجتماعات ونقاشات مفتوحة استمرت لأيام، حتى بدأت "فيروسات" المرض السياسي والإعلامي اللبناني بالظهور في التعليقات والتحليلات والتخيّلات التي حملت "معلومات تفصيلية" عمّا دار في جلسات الحوار. كأن الذين عمّموا المعلومات كانوا حاضرين أو زرع بعضهم أجهزة تنصّت أو أن المتحاورين كانوا على تواصل مباشر معهم لإفادتهم بكل جديد!!
خفّة استثنائية كما في مقاربة كثير من الأحداث تميّز أداء هؤلاء مما يخلق تشويشاً في أذهان الناس، وينتج تحليلات بعيدة عن الواقع. حدث استثنائي فاجأ العالم. كان وسيبقى محط دراسة وتقييم ومتابعة نظراً لما يحمل من أهمية وما يمكن أن ينتج عنه. الرصد ضروري. المتابعة الجدية مطلوبة. إنها بداية مسار. لكنه طويل وشاق. الخلاف بين الدولتين المعنيتين عميق جداً يتعلق بقضايا كثيرة استراتيجية مصيرية تشهدها ساحات عديدة في المنطقة. من المهم التفاهم على ضرورة مقاربتها بروح المسؤولية والحوار وأي تقدّم في هذا المجال سيؤثر إيجاباً على استقرار وأمن وازدهار المنطقة. وعلينا أن نكون في مستوى أي حدث من هذا النوع ومقاربته بعقل بارد بعيداً عن التسرّع في الاستنتاجات لأننا معنيون بما جرى وبانعكاســـاته المباشرة بعيداً عن معزوفة ومزايدات "السيادة" والاستقواء وغيرها من الشعارات التي يتمترس خلفها كثيرون ويعيشون في عالم منفصل عن الواقع في بلد أهله مختلفون فيه تقريباً على كل شيئ من الأمور الأساسية. بلد لا كتاب تاريخ واحداً أو كتاب تنشئة وطنية واحداً فيه!! ووصل الى الانهيار الذي لا يتصوّره عقل ولا تزال الأحقاد والنكايات وحسابات المصالح الشخصية والفئوية والطائفية والمذهبية وسياسة الزواريب الضيقة هي المسيطرة ولا رقابة فيه أو محاسبة أو مسؤوليات - دون تعميم أو تخصيص كما أكرّر دائماً في تحديد المسؤوليات وحدودها.
فيما يخص اتفاق الأمس، من المفيد مقاربته من زاوية ما قاله وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان:
- "رؤية المملكة تفضيل الحوار"
- "يجمع دول المنطقة مصير واحد وقواسم مشتركة تجعل من الضرورة أن نتشارك معاً لبناء أنموذج للازدهار والاستقرار..."
- "لبنان بحاجة الى تقارب لبناني وليس تقارب سعودي – إيراني".
كلام في غاية الدقة والمسؤولية. السعودية وإيران دولتان جارتان لا تحتل أي واحدة منها أراضي الأخرى. ذهبتا الى الصين للاتفاق!! نحن أبناء بلد واحد، لسنان جيران. نحن شركاء. مصيرنا واحد. وآلامنا واحدة. وهمومنا الحياتية واحدة. كنت منذ سنوات وقبل الانهيار أكرّر القول: إن أزماتنا الحياتية المعيشية وحاجتنا الى الدولة. دولة المؤسسات والقانون والعدالة. هموم واحدة. فلماذا لا تكون الاهتمامات واحدة؟؟ اليوم نحن أمام انهيار خطير. قضى على كل شيئ تقريباً. ورؤساء دول كبرى يحذّرون من زوال لبنان. ألا يستحق الأمر "تفضيل الحوار"؟؟ والبحث عن تقارب لبناني – لبناني لإنقاذ ما تبقّى ورسم خريطة طريق لإعادة النهوض بالبلد، وهو أمر سيحتاج الى سنوات طويلة؟؟ ما يجري اليوم يتجاوز حدود العقل والمنطق والمسؤولية والأمانة الوطنية لناحية إصرار كثيرين على الإقامة الدائمة في أسر "الأحقاد" وفي كهوف وأدغال وأنفاق الحسابات الضيقة الصغيرة ، والمصير مهدّد. ألا يستحق الأمر العودة الى المشترك، الى الشراكة، الى الحوار، لترجمتها لإعادة بناء الأنموذج، وإطلاق النكهة الاستثنائية أي لبنان ودوره في المنطقة بعيداً عن المبالغات لأن ثمة متغيرات هائلة حصلت وأثّرت علينا ونحن نتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية فيما وصلنا إليه دون تعميم أو تخصيص؟؟ لكن الحياة لا تقف هنا.
اليوم، نسمع دعوات الى الحوار. دعوات تحمل مواقف تؤكد أن لا نية لفرض مرشح للرئاسة ولا يَقبل أحد أن يُفرض عليه مرشح ما. وأن الحوار والاتفاق على عناوين ومبادئ يشكلان أساس التلاقي بين اللبنانيين .
لا يجوز التعاطي الدائم من قبل أي فريق بسلبية خطيرة مدمّرة مع الدعوة الى الحوار والتلاقي فهذا يتناقض مع أبسط عناوين المسؤولية الوطنية لإنقاذ البلد. إن التقارب الخارجي يمكن أن يساعد ولكن لا نستطيع أن نبقى جامدين ننتظر الخارج ونغوص ونغرق في تحليلات خلافات وصراعات واتفاقات قواه.
ما يميّز القائد السياسي قدرته على الحركة وإقدامه في ظروف كهذه على المبادرة متجاوزاً العقد والحسابات والطموحات الشخصية، لوقف انهيار، ومنع أو تأجيل انفجار، والبحث عن تفاهمات واقعية ومنطقية. أليس هذا ما أقدم عليه وليد جنبلاط وقامت القيامة في وجهه ولم تهدأ بعد؟؟
إذا كان البعض لم ولا يتجاوب لأنه ينتظر الخارج، فليرَ ان الخارج اليوم اتفق على معالجة مشاكله وحدّد أولوياته فلماذا لا نفعل مثله؟؟ وإذا كان هذا البعض لا يريد حتى الوقوف عند ما جرى أو يحاول بعض آخر الاستقواء به لتجاوز الوقائع الداخلية في لبنان فليكف هؤلاء عن الحديث عن السيادة والإنقاذ والبلاد في كارثة. إن في هذا السلوك فشلاً وإمعاناً في تعطيل العقـــل وفي عــدم الاستفادة من التجـــارب ودروس "التجربة اللبنانية" في السنوات الخمسين الماضية على الأقل. لقد جَرّبنا كل شيئ وجُرِبنا في كل شيئ. وكانت عودة دائمة الى الحوار والتفاهم .فهل نتعلّم لننقذ ما تبقىّ؟؟