بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - أبعد من الرئاسة
تكرار مشهد الشغور الرئاسي منذ العام 1988 أي منذ ما قبل اتفاق الطائف وانتقال السلطة الإجرائية من الرئيس إلى مجلس الوزراء بالتعديلات التي أدخلت على الدستور العام 1990، ما هو إلا أحد دلائل ضعف موقع الرئيس في تركيبة النظام. ولأن الضعف كان سبق التعديلات المذكورة وانتقال مركز القرار من الرئاسة إلى مجلس الوزراء ولأن السلطة الفعلية كانت قد توزعت على قوى أمر واقع تمكنت من فرض نفسها قبل وخلال الحرب وبعدها، أصبح الفراغ مقبولًا لا بل وسيلة للضغط في عملية اختيار الرئيس.
اختيار الرئيس هو العبارة الأقرب إلى الحقيقة لأن العملية التي تتم في مجلس النواب ومن خلال الاقتراع السرّي لم تكن انتخابًا إلا نادرًا أو لم تكن في يوم من الأيام، وإن سميّت كذلك في النص الدستوري. فالاقتراع حتى في المرات النادرة الذي لم تُعرف نتيجته قبل الجلسة، كما في جلسة العام 1970 التي أفضت إلى انتخاب الرئيس سليمان فرنجية، لم يكن باعث الاختيار فيها بين المرشحين قناعات النواب الحقيقية أو مفاضلاتهم بين هؤلاء على أساس التوجهات الوطنية أو التعبير عن رغبة ناخبي النواب، بل انعكاس التحولات الخارجية، وأهمها وفاة جمال عبد الناصر، على الاصطفافات الداخلية.
القوى السياسية الطائفية تقاتلت في الحرب وانتصر بعضها وتمكن معظمها من البقاء ولكن الدولة كانت القتيل الوحيد. أجمعوا على بقائها ميتة وسيطروا على هيكلها ومفاصلها وحولوها إلى متاريس في الحرب الأهلية الطائفية الباردة المستمرة. فعندما أصبحت قوى الأمر الواقع المتعاقبة أقوى من الدولة منذ ما قبل الحرب وتحديدًا منذ اتفاق القاهرة العام 1969 عملت على هدم بنائها الهشّ خلال الحرب ولم تُرد إحياءه أو ترميمه بعد الحرب، بل فضّلت وجود هيكل الدولة ومؤسساتها الضعيفة والخاضعة لتلك القوى والموزعة عليها كمواقع نفوذ تستخرج منها منافع العمل السياسي من موارد عامة ووسائل حماية للتابعين.
تراجع أهمية الموقع الرئاسي واستسهال بقائه شاغرًا، ينطبق على سائر المؤسسات الأخرى الدستورية منها والإدارية والأمنية والنقدية. ولكن على رغم هذا الواقع ما تزال المؤسسات الضعيفة حاجة وغطاء للحكم الذي تمارسه القوى التي تتألف منها الجماعة الحاكمة على أتباعها، وحاجة للصراع المستمر في ما بينها. ولهذا السبب يحتاج الأقوى بينهم أشد الحاجة إلى أن يكون الرئيس بجانبه أو تابعًا له ويعارض الآخرون ذلك أشدّ معارضة.
هذه الحلقة المفرغة التي يدور فيها لبنان لا تنكسر إلا بطريقة من اثنتين، بالسياسة أو بالقوة. وإذا كانت القوة خيارًا مستبعدًا بالنظر إلى الواقع اللبناني في الماضي والحاضر، يبقى الحل بنشوء قوة سياسية مختلفة تكوينًا وأهدافًا عن الطيف القائم حاليًا والذي يتكون من قوى ذات تكوين طائفي زبائني سلطوي متشابه.
أهم ما حصل في سنوات الانهيار الأخيرة هو أن المظاهرات التي خرجت منذ خريف العام 2019 أثبتت رغبة اللبنانيين العارمة في كسر الطوق الملتف حول أعناقهم منذ عقود وأثبتت في الوقت نفسه عدم قدرتهم على تحقيق ذلك بالأدوات القديمة. لهذا ولأن أزمة النظام ستستمر وإن انتُخب رئيس أو حصل انفراج مرحلي، لا بد من قيام قوّة سياسية جديدة تضمّ كل من يؤمن بالانتماء الوطني أساسًا يجمع بين اللبنانيين وتعمل على أساس عقيدة "الوحدة في التنوّع"، كما يقول أديب صعب في كتابه الصادر عن دار النهار، وتقوم على الفصل التام بين الشأن العام والشؤون الدينية ولا يكون هدفها متركزًا على شخص زعيم طامح فقط لتبوّء منصب مخصص لطائفة، بل بناء دولة القانون والمواطنة الكاملة.