بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - في الكرامة والتسوية
جنوبيات
السياسة عند غالبية متعاطيها هي فنّ الوصول إلى السلطة والبقاء فيها بشتى الوسائل، والوسيلة القذرة تبرّرها الغاية العظيمة كما نظّر مكيافيلي في كتاب "الأمير"، ولهذا تسقط المحرمات والمبادئ والكرامات. أما الشعارات التي تتضمن مبادئ سامية يُطلقها أهل السياسة والمثل العليا التي في مواقفهم وخُطبهم وبرامجهم فما هي إلّا للاستهلاك الشعبي.
تاريخ البشرية مليء بالأمثلة عن الغدر والقتل والكذب وسواها في الصراع على السلطة ولكن في هذا المضمار وحتى في غياب المبادئ والقيم، هناك من يحرص على الكرامة ولا يقبل أن يقترن وصوله للسلطة أو استمراره فيها بالذلّ.
في #لبنان يكاد ذلك أن يكون نادرًا، ويترافق غياب المبادئ والصدق مع ندرة التمسك بالكرامة فإذا بالغالبية ممن ينالون المناصب لا يكترثون للصورة التي يظهرون بها وإن كانت مذّلة، والتاريخ المعاصر فيه كثير من الشواهد.
تبرير الموقف غالبًا ما يكون بالتشديد على أهمية الغاية المحققة، وهي المنصب في السلطة، والتبرير حاجة عندهم تجاه المناصرين أو التابعين كما تجاه الخصوم. هذا ما أدى إلى وجود من يؤيدون أصحاب السلطة في خياراتهم بنتيجة تبعيتهم لهؤلاء فأصبحوا على صورتهم لا يكترثون إلّا بكون الشخص الذي يناصرونه يتبوّأ منصبًا رفيعًا يعتقدون بأنهم يكتسبون منه الحماية والرعاية وهذا بذاته يكفيهم ويُغنيهم عن الشعور بالكرامة.
في لبنان كل شيء تقريبًا قائم على التسوية، فالاستقلال المؤقت والنسبي للعام 1943 قام على تسوية "لا شرق ولا غرب" والحرب الأهلية الصغرى في العام 1958 انتهت بتسوية "لا غالب ولا مغلوب" والحرب الكبرى في العام 1975 انتهت بتسوية أيضًا، ويوم السابع من أيار 2008 انتهى بتسوية الدوحة، وكل أزمة تشتدّ وتتعقّد إلى أن تنفرج بتسوية. وهذا ما يأمله أطراف السياسة ومسببو الأزمات اليوم وهذا ما ينتظره اللبنانيون في غياب ما هو أفضل.
التشريع يغلب عليه طابع التسوية، فهناك قوانين للبناء وأخرى لتسوية مخالفات البناء وقوانين للإيجارات وأخرى لتمديدها كتسوية بين المالكين والمستأجرين، وقوانين لإشغال الأملاك العامة وأخرى لتسوية التعديات عليها، وقِسْ على ذلك في كل الميادين. هذا في السلطة التشريعية، وفي السلطة الإجرائية من يتابع جداول أعمال مجلس الوزراء يجد عشرات البنود التي يتم إقرارها على سبيل التسوية.
حتى المفاهيم المجرّدة قابلة للتسوية عند كثيرين. الاستقلال والسيادة والعداء للمحتلّ والكرامة الوطنية وغيرها، يجدون مفاهيم تسووية للتعايش مع أوضاع هي على نقيضها. الكرامة الشخصية بطبيعتها لا تقبل التسوية مع الذلّ ولكن غالبًا ما تُخترع الحجج والمبررات لتسويق المواقف المذلّة. فالتوفيق بين الكرامة والذّل مستحيل ولا يؤدي إلّا إلى فقدان الشعور بالاثنين معًا، فحين تفقد الكرامة تصاب بالشعور بالذلّ حكمًا. أما من يتنازل عن كرامته طوعًا فيفقد الشعور بها ويفقد الشعور بالذلّ حكمًا، وإلا استحال عليه القبول بالأولى من دون الوقوع في الأخرى.
منطق التسوية في السياسة للوصول إلى المناصب لا يؤدّي بالضرورة إلى التخلّي عن الكرامة الشخصية، وفي التاريخ أيضًا شواهد على وصول أشخاص كانوا من أكثر الناس اعتزازًا وحفاظًا على مبادئهم. وتسوية العام 1958 أوصلت فؤاد شهاب الذي تمكّن من استثمار التسوية الإقليمية لصالح بناء الدولة ومؤسساتها وتعزيز حكم القانون.
في مناسبة اجتماعية منذ أيام سُئل أحد المرشحين البارزين للرئاسة عن موضوع يشغل اللبنانيين اليوم ويؤرقهم، فتحدّث من موقع مسؤولياته الحالية متوجّهًا إلى ديبلوماسيين غربيين حاضرين بلغة حازمة لا يستخدمها عادةً من هو طامح للرئاسة، وشعر الحاضرون من اللبنانيين بنبض الكرامة الشخصية والوطنية فيه. لعلّ التسوية المنتظرة تأتي بمثله.