بأقلامهم >بأقلامهم
الموظّفون بين سندان الواجب ومطرقة الحقوق الضائعة
الموظّفون بين سندان الواجب ومطرقة الحقوق الضائعة ‎الجمعة 21 07 2023 18:53 فيصل طالب
الموظّفون بين سندان الواجب ومطرقة الحقوق الضائعة

جنوبيات

درجت أدبيات خطابنا الإصلاحي القائمة على “محاربة الفساد والفاسدين”، على ألّا تعير كبير اهتمام، إِلَّا فيما ندر، للموظفين الذين يبلون بلاء حسناً في تنفيذ مهماتهم، بل تركّز غالباً على سوء الأداء وسلبياته، لدى من لم يحسنوا ويقدّروا قيمة الدور الذي أُسند إليهم في هذا النطاق، وذلك إمّا لعلّة في المؤهّلات والكفايات، أو لضعف في الالتزام بموجبات الوظيفة؛ علماً أنّ لا شيء يقيم أود الإصلاح الإداري، ويقوّي عوده، ويؤتي أكله، إِلَّا أمران متلازمان : إظهار السلبيات ومكافحتها من جهة، وتظهير الإيجابيات وتعزيزها من جهة ثانية، بما في ذلك وضع النماذج القدوة والأمثلة المشرقة في دائرة الضوء والاهتمام والعناية لكي يحذو الآخرون حذوها، وحتى يكون الصحيح دائماً نبراساً يستضاء به. 

 كيف يمكن للمرء أن يكون في قلب الحياة العامة، ولا يتوسّد عميق الإحساس بالهمّ العام، وينشغل بشؤونه وشجونه، فيحاول أن يشعل شمعة يجرح ضوءُها عتمةَ الأزمات والصعوبات والانكسارات المتدحرجة، بدلاً من تنفس الوجوم، وإدمان التسليم بالبقاء في أقبية السلبية الخانقة، وتحاشي التحليق في الفضاء الفسيح للخدمة العامة؟!  تُرى هل بغير التماهي مع خدمة الناس والدفاع عن مصالحهم، وتوفير مقتضيات المصلحة العامة، يكتسب العاملون في الشأن العام ميزة النجاح والكفاءة والشفافية، والإسهام في تقدّم المجتمع وبناء المستقبل؟! 

الصادقون في هذا السياق ليسوا قلّة، بل هم الكثرة الكاثرة، وإن بدا الأمر غير ذلك فلضعف يعتري تظهير صورتهم المشرقة كما أسلفنا. هؤلاء هم الذين حفظوا العهد، وأدّوا الأمانة، وصدقوا وجدانهم من غير أن يصادقوا واقعهم. بسواعد هؤلاء المخلصين، ذوي المَكِنة والدُّرْبة والهمّة والمِنعة، تحقّقت إنجازات، وسمقت بأعمالهم طموحات أنزلت أصحَابها المكانة التي تليق بجهودهم، نظير ما قدّموه لمجتمعهم من عطاءات؛ فكانوا فرسان الحق والصالح العام ؛ وعلى ذلك فليتنافس المتنافسون، ويتسابق المتسابقون؛ فلا شيء أشدّ مضاضة على المرء من أن يرى أهل الجدارة في غير ما يستأهلون، والمناصب والمواقع والميزات من نصيب من لا يستحقون؛ وهو ما يرخي بظلال اليأس والظلم على البارّين بوطنهم؛ ولن يكون ذلك في كل حال سديداً في ثوابه، حصيفاً في غاياته، حكيماً في مناله.

على الرغم من كل العوائق والصعاب، لم يلتفت هؤلاء الموظفون في أداء عملهم إِلَّا  لقدسية الواجب ونبض الضمير الحيّ وموجبات الانتماء الوطني والالتزام المواطني، متجاوزين ما يلحق بهم من ظلم، إن على صعيد الرواتب، وقد كانت مذلّة قبل أن يجري تصحيحها في سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة، ثمّ ما لبثت أن استعادت صفتها السابقة بأضعاف مضاعفة عمّا كانت عليه، بفعل الأزمة المالية والنقدية التي ضربت البلاد، أو بداعي تخلّف قوانين الإدارة العامة وعدم تحديثها لتتوافق مع الحاجات الجديدة، وتواكب التقدم الذي طرأ على العلم الإداري، أو لإغفال التقييم الدوري للموظفين في عمليات الترقية والترفيع والمكافأة… على الرغم من كل ذلك، وعلى قاعدة أن لا شيء قادراً على خلخلة البنيان الوظيفي إذا ما ارتفع منسوب الحصانة الأخلاقية فيه، آلى هؤلاء على أنفسهم، ككلّ المخلصين في شتّى الحقول والميادين، أن يسرجوا خيلهم المتحمحم في مفازات التضحية ودروب العطاء، ليلهثوا وراء طيف الترياق المداوي لجرح الاغتراب في الوطن، ويَدَعوا الأحلام تتمرّس بالتمرّد على الضمور والانكفاء، ويثابروا على صيد الضوء في عزّ الظلمة، وإحياء بقايا الأنهر وأطلال السواقي بمَعين البحث عمّا يخفّف أعباء المكابدة عن إنساننا التائه في دَغَل الخوف والقلق، وحتى لا ينسحب من متون الأمل إلى هوامش الإحباط…  ومع ذلك لم يلقَ هؤلاء الموظّفون، سواء أكانوا في الخدمة الفعلية أم في التقاعد، إِلَّا الجحود، باعتبارهم الأكثر تضرّراً بين شرائح المجتمع من الأزمة المالية الكأداء التي عصفت بالبلاد منذ العام 2019، وتسبّبت بانهيار دراماتيكي في قيمة العملة الوطنية، وتالياً بالرواتب والأجور التي بلغت مستويات الخسارة التي لحقت بها ما يقارب 90% من قيمتها؛ في حين استطاعت بقية القطاعات العاملة أن تتكيّف مع ظروف الأزمة، خصوصاً تلك التي استفادت من “دولرة” الاقتصاد، وما يستتبعه من تحديد الكلفة والأتعاب والأجور في ضوء المستجدات الطارئة. إنّ الإدارة العامة التي هي مجموعة الوظائف والعمليات الإدارية التي تتضمّن التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، في إطار تنفيذ السياسة العليا للدولة، لن تستطيع أن تستغني عن تطويرالموارد البشرية فيها، وألّا توليه العناية القصوى، وفي مقدّمها إعادة النظر بمجمل سياسة  الرواتب والأجور المعتمدة، حتى لو قُيِّض لها أن تتحوّل إلى الحكومة الإلكترونية التي تستهدف في المقام الأوّل التخلّص من التعقيدات الإدارية وتبسيط الإجراءات، مع شيء من اختصار الهياكل التنظيمية، بل إنّ تنمية الموارد البشرية شرط أساس لحسن تطبيق الحوكمة الإلكترونية للإدارة العامة. وهذا يعني بإيجاز أنّ لا دولة دون إدارة عامة، ولا إدارة عامة دون موارد بشرية  لتسيير أعمالها، ولا موارد بشرية دون إدراجها في سُلّم الترقّي والنموّ المستدام…؛ الأمر الذي يستلزم الالتفات إلى أوضاع العاملين في القطاع العام، والنظر في ما آلت إليه أحوالهم بعين الرائي لمستقبل الإدارة والبلاد، بعيداً من التدابير الظرفية أو الطارئة أو المجتزأة، بل باعتماد سياسة تنموية بعيدة المدى لتطوير أوضاع هذا القطاع، بدءاً بالعنصر البشري فيه؛ إذ إنّ التكامل بين مستوى التطوّر في الموارد البشرية و التخطيط الاقتصادي يتسم بعلاقة  تنموية جدلية، في مسار التنمية المستدامة، وإحداث التغييرات المطلوبة لزيادة الإنتاجية، على قاعدة أن  الاستثمار في بناء الأطر البشرية المتخصصة والكفوءة في الإدارة العامة هو العماد في تطبيق مبادئ الحوكمة وتحقيق أهدافها.

في المحصلة والاستنتاج يلحّ على الموظّفين العاملين والمتقاعدين سؤالهم المضني: أبمثل هذا النكران يُجزى من هم بشهادتهم قائمون، الذين عملوا بشغف الانتصار للحق والخير والتقدّم، وأسهموا في البحث عن الأجوبة المناسبة لأسئلة التحدّيات والتحوّلات العميقة التي تواجهنا من كلّ حدب وصوب، على قاعدة الإيمان العميق بأنّ الزبد يذهب جُفاءً، وأنّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض؟!

(المدير العام السابق للشؤون الثقافية)

المصدر : الف لام