"صباح الخير، من أجمل ما يُقال في كُل صباح، اللهم إنّي وكّلتُكَ أمري، فكُنْ لي خيرَ وكيلٍ، ودبِّر لي أمري، فإنّي لا أُحسِنُ التدبير".
هذه الكلمات ضمّنها الرسالة الأخيرة التي بعث بها سعدو ذيب رباح "أبو ماجد"، عبر "الواتس آب" لي ولعددٍ من الأصدقاء، لتكون وداعية، قبل ساعاتٍ من إغماض عينيه، بعد مُعاناة مع المرض، في رحلته الأبدية، عن عُمرٍ يُناهز 82 عاماً.
سنواتٌ كانت حافلةً بالعطاء، من أجلِ قضية فلسطين، التي آمنَ بها، وناضل لأجلها مُنذ نعومة أظفاره، في صفوف حركة "فتح" بعد انطلاقتها، ومع الثورة الفلسطينية، في مُختلف المواقعِ والمحطات، التزاماً بالقرار الوطني الفلسطيني المُستقل.
كان عامِلاً على تعميمِ النموذج الاجتماعي والإنساني، بين أبناء عائلة رباح التي ينتمي إليها، وبلدة حطّين حيثُ مسقط الرأس، ومُخيّم عين الحلوة حيث محطُّ اللجوء، ومع أبناء شعبِه.
وتجاوز ذلك إلى نسجِ علاقاتٍ مع فاعليات وقيادات وأبناء مدينة صيدا وبلدة الغازية والجوار.
تمتّع "أبو ماجد" بثقافةٍ عالية، مُستندة إلى وعيٍ مُبكرٍ، وصراحة مُتناهية، وجرأةٍ، حتى لو أدّت إلى بعض الإشكالات لدى مَنْ لا يستوعب رأيه ويحترم الرأي الآخر!
تفرّد سعدو رباح بنبرة صوته وبحتّها، التي يُمكن تمييزُها من بين جمعٍ غفير.
"أبو ماجد"، صاحب واجبٍ، لا يترك مُناسبة، ترحاً أو فرحاً، اجتماعية أو وطنية، إلا ويكون في طليعة المُشاركين، ليس فقط في مُخيّم عين الحلوة وصيدا والجوار، بل في المناطق والمُخيّمات داخل لبنان والأصدقاء في الخارج.
يتقدّم المُشاركين في المسيرات والتظاهرات والاعتصامات، والتحرّكات والمهرجانات، مُرتدياً "الكوفية" الفلسطينية، من أجلِ قضية فلسطين والقضايا الوطنية والقومية.
كان يحرصُ على المُشاركة في حل الإشكالات والخلافات، وإتمام عقد المُصالحات، وتحصين الأمن الاجتماعي، لأنّ نُقطة الإلتقاءِ بالنسبة إليه هي النضال من أجلِ فلسطين.
انتماؤه المُبكِر إلى حركة "فتح" أعطاه حافزاً للتواصل مع جميع الفصائل والقوى الفلسطينية، كما الأحزاب اللبنانية، على مُختلف انتماءاتها، تقريباً لوجهات النظر وتحقيقاً للوحدة الوطنية.
في كُل المُناسبات التي كُنتُ أُقيمها، من توقيعِ كتابٍ أو عشاءٍ تكريمي، أو اجتماعية، يكون فيها حضور الأخ "أبو ماجد" أساسياً، وهو الذي بقي على تواصل، مُواكباً النشاطات والمقالات والمُقابلات التي أكتبها أو أُجريها، مُتّصلاً، ومُبدياً رأيه بوضوحٍ وصراحة، تنطلقُ من معزةٍ مُتبادلة.
خلال الجلسات المُتعدّدة مع سعدو رباح، والحديثِ عن السياسة ومحطات النضال الفلسطيني وقضايا مُتعدّدة، يُمكن تسجيلُ شريط الذكريات التالي:
 أبصرَ النورَ في بلدة حطين - قضاء طبريا في الجليل الفلسطيني في العام 1941.
 بعد إتمام عامه السادس، والدخول إلى مدرسة البلدة، ارتكبت عصابات "الهاغاناه" و"الأرغون"، مجازر ضُد أبناء فلسطين، وصولاً إلى نكبة العام 1948، التي شهد أحداثها وهو طفلٌ، لكن بقيت مُتيقظة في ذاكرته.
شكّلت تلك المحطة نقطة تحوّل هامّة في حياته، بقي والده ذيب رباح داخل البلدة يُدافع عنها، وعن الأرضِ مع مجموعة من المُتضامنين، الذين ألحقوا بالعصابات خسائر جسيمة.
هي البلدة التي انتصر فيها السُلطان صلاح الدين الأيوبي على الغُزاة الصليبيين في "معركة حطين"، خلال شهر تموز/يوليو 1187.
ذاكرة اللجوء طُبِعَتْ في عقل وقلب سعدو، وهو يقبعُ داخل صندوق شاحنة لنقل مواسم الزرع، قادها جدّه (لوالدته)، ومعه ابنته وولدها سعدو و3 شقيقات.
 رحلةٌ قسرية من معبر الناقورة على الحدود الفلسطينية مع لبنان، إلى بنت جبيل، التي كانت المحطة الأولى في اللجوء، عاش فيها سعدو مع العائلة لمُدّة شهرٍ ونيف، ثُم جرى نقلهم إلى مُخيّم الطوارئ، عند الطرف الجنوبي لمدينة صيدا، قبل الاستقرار في "حي حطين" داخل مُخيّم عين الحلوة، ومعها يتوقّف الزمن على ذكرى النكبة.
الوالد الذي كان يُقاتل داخل حطين، اضطُر إلى مغادرتها، بعدما دمّر الاحتلال بيوتها ووصل مع العائلة إلى لبنان.
عاش "أبو ماجد" داخل "حي حطين" في مُخيّم عين الحلوة، الذي أُطلِقَ عليه الاسم نسبةً إلى البلدة الأصلية في فلسطين، كما أطلقها أبناء البلدات والقرى الفلسطينية الأخرى، على أحياء إقامتهم، في صورة مُصغّرة عمّا كانت عليه في الأقضية داخل فلسطين.
كبر في صدر "أبو ماجد" الحنين إلى الأرض التي احتضنت الآباء والأجداد داخل فلسطين، وتحوّلت إلى مُستعمراتٍ إسرائيلية، بعد تدمير الاحتلال لبيوتها، فيما بقيت حجارة بعضها شامخة وشاهدة على التاريخ الفلسطيني في ذلك المكان.
كما بقيت مشاهد وأخبار المجازر الوحشية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أصحاب الأرض، محفورةً في ذاكرة التاريخ وأبناء فلسطين التي تعدّدت محطات ترحالهم.
يروي سعدو رباح كيف كان استقبالهم من قِبل "مجلس الكنائس العالمي"، وإحضار الخيم والمواد الغذائية، ومن ثُم انتقال الملف إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في العام 1950، التي شيّدت بيوتاً من الزينكو والطين لنحو 8 آلاف لاجئ.
كما عملت على فتح بعض المطاعم والمدارس على أرضٍ استأجرتها من أصحابها الأصليين، وتحوّلت إلى مُخيّم عين الحلوة.
عمل والد سعدو في الزراعة، المهنة التي أتقنها، لكن هذه المرّة كان أجيراً وليس مالكاً.
سارت العائلة على خُطى الجد، الذي تُوفي في العام 1958، ووصيته التي حُفِرَتْ في ذاكرة سعدو، تُؤكد مُراعاة ظروف الحياة بشد الأحزمة، لكنها كانت تضع أيضاً خُطّة وطوق نجاة نحو الغد بالتمسّك بالعلم للأجيال المُقبلة.
عاود سعدو الإلتحاق بالمدرسة، التي أقامتها وكالة "الأونروا" في مُخيّم عين الحلوة، تنفيذاً لوصية الجد، وتخرّج منها، ثم حصل على شهادة البكالوريا في العام 1964.
بعد انطلاق حركة "فتح"، وتأسيس "مُنظّمة التحرير الفلسطينية"، وانطلاق العمل الفدائي، كان سعدو في طليعة المُنتسبين إلى حركة الطلقة الأولى، والقيام بعمليات استطلاع على الحدود اللبنانية مع فلسطين المُحتلة.
محطاتٌ كثيرة حفظتها ذاكرة "أبو ماجد" من الاعتداءات والغارات الجوية الإسرائيلية على المُخيّمات الفلسطينية والاجتياحات وغزو لبنان، فضلاً عن الأحداث الأليمة التي لا يُغادر شريطها ذاكرته.
محطاتٌ مُتنقّلة بين مُخيّم عين الحلوة، إسبانيا، ليبيا، والإمارات العربية المُتحدة، حيث عمل لمُدة 11 عاماً في وظائف رسمية، قبل مُغادرتها في تسعينيات القرن الماضي، عائداً إلى منزله داخل "حي حطين" في مُخيّم عين الحلوة، ومعه التفرّغ لمُمارسة نشاطه السياسي والتنظيمي في حركة "فتح"، والدور الاجتماعي.
ذاكرة سعدو رباح، رغم تقدّمه بالسن، والعمليات الجراحية التي أرهقت جسده، كانت مُفعمة بوعيٍ يحفظ تاريخ اللجوء، والأحداث التي مرّت على اللاجئين في لبنان، "قليلها كان مُفرحاً، ومعظمها كانت كالنكبة لا شيء فيها يسر البال أو الخاطر" - وفق ما كان يرى "أبو ماجد".
من بين المحطات الأليمة التي تركت نُدَبَها في قلب "أبو ماجد": 
- وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970.
- استشهاد المُناضل معروف سعد بعد اغتياله في 26 شباط/فبراير 1975، وقبلها التعرّض له على مواقفه الداعمة للرئيس عبد الناصر.
- استشهاد الرئيس ياسر عرفات، في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
ومن المُناسبات الخاصة:
- اغتيال ابن عمّه العقيد في جيش التحرير الفلسطيني فالح رباح، في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1977.
- وفاة نجله ماجد، بحادثٍ مُؤلم في دبي، بتاريخ 16 آب/أغسطس 2014.
- وفاة ابن عمّه رئيس "رابطة آل رباح" المُهندس جمال رباح "أبو لامي"، بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2019.
لكن، ما أثلج قلب "أبو ماجد"، كانت فرحته الكبرى التي واكبناها، يوم وطأت قدماه أرض فلسطين، عندما ذهب مع وفد حركة "فتح" للمُشاركة في "المؤتمر العام السادس" للحركة، الذي عُقِدَ في رام الله في نهاية شهر تموز/يوليو وآب/أغسطس 2009، حيثُ قَبَّل الأرض بعد تجاوزه معبر الملك حسين "اللمبي" على الحدود ما بين فلسطين المُحتلة والأردن، وتنشّقَ هواء الوطن، الذي أبصر النور على أرضه، وناضلَ من أجلِ العودة إليه.
كما خلال لقائه عدداً من الأقارب الذين قَدِموا إلى رام الله لزيارته من داخل الأراضي الفلسطينية المُحتلة مُنذ العام 1948.
سعدو رباح، المُتمسّك بحق عودة اللاجئين، كان يأمل أنْ يُوارى الثرى في بلدته حطين بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، الذي سلب أبناء فلسطين الحقَّ بالعيش الكريم فوق أرضه، لكنّه رحلَ بعد مُعاناةٍ مع المرض، ليوارى الثرى في مقبرة مُخيّم عين الحلوة، التي تشهدُ له مُشاركته الدائمة في مواراة الثرى لأصدقاء وأعزاء.
لم تشغل "أبو ماجد"، المراكز يوماً من الأيام، بل كان جُلُّ تركيزه على القضية الفلسطينية، فرحل مُناضلاً وقائداً وطنياً فلسطينياً، مُلتزماً بالثوابت الوطنية، وعاملاً على تجسيد الوحدة الداخلية الفلسطينية، والعلاقات المُميّزة مع الجانب اللبناني، الذي ارتبط به بعلاقاتٍ وطيدة.
خسارة كبيرة برحيلِ "أبو ماجد"، تغمّده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله وأولاده، الذين يواصلون المسيرة، الصبر والسلوان.