بأقلامهم >بأقلامهم
إلى روح الشاعر سميح القاسم
إلى روح الشاعر سميح القاسم ‎السبت 19 08 2023 14:22 خليل المتبولي
إلى روح الشاعر سميح القاسم

جنوبيات

حمل الشاعر الثوري آلته الموسيقية،

وراح يعزف أغاني الدروب لأنتيجونا ابنة أوديب الملك المنكوب مع أطفال 48 المنحدرين من جيل المأساة في القرن العشرين، هؤلاء الأطفال غرباء
واقفون على بوابة الدموع والذئاب الحمر تعوي عليهم من وراء القضبان، بينما المطر والفولاذ
يتساقطان على رؤوسهم كحجارة من سجّيل، حتى أصبحوا مرثيّةً قديمةً تُرَتّلُ يوم الأحد في بابل ... 
من بعيدٍ، رأى الشاعر دخانَ البراكين تتصاعد من مفكرة أيوب الذي قُتل في المنفى، وكان قد كتب
له مزامير الطفل الذي ضحك لأمّه المقتولة وهو يصرخ "الموت يشتهيني ميتًا"، مع أصواتٍ من
مدنٍ بعيدة تعلن ثورة مغنّي الربابة على سطحٍ من الطين، يردّد مع القديسات الخمس التعاويذ
المضادة للطائرات. 

جلس مع أفكارٍ ازدحمت بدون ترتيب في انتظار طائر الرعد الآتي من مدينة
إرم المسكونة بالخطيئة والوثن والتي تبحث عن الجنّة مع أبطال الراية الذين يحملون بطاقاتٍ إلى
ميادين المعركة، طائرالرعد المجهول الذي تجاوز وتناسخ مع أبناء الحرب كلمةَ الصعود إلى القمة. 
ترك الشاعر آلته الموسيقية مكرهًا، وبقي في أرضه المحتلّة رغم أنف المحتلين، وراح يصرخ
تقدّموا تقدّموا أيها الحراس أراه حيًا واقتلوني تقدّموا تقدّموا كل سماء فوقكم جهنم، وكل أرض تحتكم
جهنم تقدّموا تقدّموا، خذلتنى الصحاري ... 
صار الجواد جامحًا، وصار اليد التي ظلّت تقاوم بالقلم والفكر، دمه على كفّه، انتفض وراح يلقي
خطابًا في سوق البطالة، وعلى قلعة الأمبراطور أعلنها حوارية العار، ولفلسطينية في صوفيا
راسلها وأخبرها عن البيت الحزين، وعن القمر المغدور، وعن سقوط الأقنعة ليلة ما حدث في
الخامس من حزيران، ووعدها بأنّ وطن العجائب السبعين سيرث جيادًا نفّاثة تنطلق نحو
الإسكندرون في رحلة الداخل والخارج، رحلة السراديب الموحشة التي ستخيف أطفال رفح وشمس
أريحا ... 
بقي الشاعر وحيدًا في ليلة رأس السنة، وما تلاها من أشهر، إلى يوم التاسع عشر من شهر آب من
عام 2014، حيث أصبح ضميرَ المتكلم الذي التحم بالفعل الماضي الناقص، وأصبح الموتَ في
الوعي الكامل، نظم البيت الأخير في القصيدة، وطوى آخرَ صفحة من دفاتره، وذهب إلى منفاه
الأبدي والأزلي وهو يردد " منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي ... نحو قبري ...

المصدر : جنوبيات