بأقلامهم >بأقلامهم
100 عام من فشل "لبنان الفرنسي"...
100 عام من فشل "لبنان الفرنسي"... ‎الاثنين 21 08 2023 12:00 محمد السماك
100 عام من فشل "لبنان الفرنسي"...

جنوبيات

ليس غريباً أن يتمدّد النفوذ الفرنسي في لبنان في حين يتقلّص هذا النفوذ في دول غرب إفريقيا التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي لعقود طويلة، حتى إنّه بلغ البرلمان والسراي الحكومي، وصولاً إلى الرئاسة الأولى.

لا غرابة في ذلك، فلبنان وُلد في عام 1920 في مدينة فرساي الفرنسية، ثمّ أُعيد استيلاده في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية في عام 1989. وبين الولادة وإعادة الولادة تعرّض لبنان لسلسلة من العمليات الجراحية الترميمية الترقيعية بدءاً بلقاء الحدود بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، فاتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثمّ الخضوع لقوات الردع العربية والسيطرة السورية المطلقة سياسياً وأمنيّاً، والاجتياح الإسرائيلي عام1982  وما تلاه من سلسلة اعتداءات استهدفت تغيير البنية السياسية التي يقوم عليها لبنان.

حاول الفاتيكان إعادة ترميم هذه البنية من خلال السينودس الذي دعا إليه البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني عام1993 ، فكانت وثيقة الإرشاد الرسولي التي لم يسترشد بها أحد. أراد الفاتيكان أن يكون لبنان نموذجاً يُحتذى للعيش المشترك بين جماعات متعدّدة الأديان والمذاهب.

"فضل لبنان" في "بناء البيت معاً"

إلا أنّ لبنان انتهى نموذجاً لفشل أو لتفشيل صيغة العيش المشترك. فالدول المتعدّدة الأديان والثقافات تتعلّم الآن من لبنان كيف تفشل هذه الصيغة وتتعلّم منه ماذا يعني فشلها، وما هي المآلات التي يؤدّي إليها هذا الفشل، بعدما كان المطلوب أن نتعلّم كيف تنجح هذه الصيغة، وماذا يعني نجاحها، وما هي المآلات التي يؤدّي إليها هذا النجاح، ليس سياسياً فقط، إنّما اجتماعياً وثقافياً وروحياً في الدرجة الأولى.

في كتابه "البيت الذي بنيناه معاً"، يقول الكاتب الإنكليزي جوناثان ساخس، وكان رئيس الطائفة اليهودية في بريطانيا :"لقد أثبت التاريخ أنّ الطريقة الوحيدة لبناء مجتمع موحّد، هو بناؤه معاً".

ليس غريباً أن يتمدّد النفوذ الفرنسي في لبنان في حين يتقلّص هذا النفوذ في دول غرب إفريقيا التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي لعقود طويلة، حتى إنّه بلغ البرلمان والسراي الحكومي، وصولاً إلى الرئاسة الأولى

لم يبنِ اللبنانيون لبنانهم معاً. بنوه مع الآخرين، كلّ الآخرين. وارتضوا ما نصحهم به الآخرون، كلّ الآخرين، من باريس مروراً بسان كلو، إلى الطائف مروراً بجنيف، ومن القاهرة إلى الدوحة، مروراً بعنجر وقصر الصنوبر.

يمكن تجميع طوائف مختلفة. لكنّ التجميع ليس توحيداً. {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى{ )سورة الحشر، الآية 14(. وحتى تنتقل الطوائف من حالة التجميع إلى الجماعة الواحدة، لا بدّ من الثقة. والثقة عملة نادرة في "المجتمعات" اللبنانية.

 الرائج في هذه المجتمعات هو النفاق الاجتماعي، وهو نوع من التكاذب، }يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم{ (سورة آل عمران، الآية 167). فالسياسة في لبنان لغة لسانية، أي كلامية. أمّا المواطنة والعيش معاً فهما لغة قلبية، أي إيمانية. في الحالة الأولى يعرف الشاطر كيف يلتفّ على كلامه المنمّق. وفي الحالة الثانية يسعى إلى ترجمة ما في قلبه أعمالاً ومواقف والتزامات.

المسامحة "الفوقية"... والمواطنة

عندما دعا البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر إلى السينودس حول الشرق الأوسط (2010)  رفض في وثيقة الإرشاد الرسولي التي صدرت عنه مبدأ التسامح، وأكّد مبدأ المواطنة. كان البابا على حقّ. فكما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه فإنّ في التسامح فوقيّة المتسامِح مع المتسامَح معه. والمواطنة لا تقوم على الفوقية، إنّما على المساواة في الحقوق والواجبات.

كان يفترض بلبنان أن يقدّم المثل والنموذج، لذلك اختار البابا لبنان ليعلن منه وثيقة الإرشاد الرسولي. لكنّ لبنان في وادٍ آخر، غارق حتى أذنيه في وحول الفساد والتكاذب، وما يزال حتى اليوم يواصل الحفر في هوّة لا قرار لها.

الدمّارون كثيرون في لبنان، لكنّ البنّائين قلّة. لكن  }كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله{ )سورة البقرة، الآية 249)، فمتى يأذن الله لهذه القلّة بالغلبة؟

هل يمكن تجنّب العودة إلى الحرب الأهليّة اليوم؟

في ثقافتنا الإيمانية أنّ }الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم{ (سورة الرعد، الآية 11)، فالتغيير المنشود في لبنان يبدأ من هنا، تغيير ما في النفس ليكون مدخلاً إلى التغيير العامّ.

والمدخل إلى تغيير ما في النفس هو الإيمان بأنّ لبنان ليس دولة تُضاف إلى عدد الدول وحسب، فهو مؤتمن على رسالة العيش معاً التي بها يكون أو لا يكون.

 

المصدر : اساس ميديا