بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - الفرصة الضائعة
جنوبيات
في خضم الأحداث الأخيرة التي أعادت تسخين الجبهة الجنوبية، تصاعدت الأصوات المطالبة بالتدخل في الحرب لنصرة أهل غزّة، كما تصاعدت الأصوات المعاكسة المحذّرة من توريط لبنان في حرب لا قدرة له على احتمال نتائجها ولا شأن له بها. وبين هذه وتلك تساءل كثيرون عن المصلحة اللبنانية الحقيقية وعن حق لبنان في ثرواته القابعة تحت الماء ومدى قدرته على حمايتها وعن حقيقة عناصر القوة لديه وجدواها.
عند توقيع الاتفاق بين لبنان ودولة الاحتلال حول الحدود البحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة شعر كثير من اللبنانيين بطعم الهزيمة وبعضهم وصف ما حصل بالخيانة على اعتبار ان حقوق لبنان في مياهه والثروات الكامنة تحتها تفوق ما انتهى اليه الاتفاق.
وبالمقابل كان هناك من اللبنانيين من برّر الاتفاق بموازين القوى بين الطرفين وبالضغوط التي مورست من قبل الوسيط الاميركي الاسرائيلي اموس هوكشتاين على الاطراف اللبنانيين الذين كانوا يمسكون بأوراق التفاوض، كما برّر آخرون الاتفاق بالحسنات التي نسبوها اليه ومنها أنه اتفاق الممكن ولكنه سيسمح للبنان بالمباشرة بالتنقيب عن الغاز واستخراجه ما اعتُبر خشبة خلاص من الهوة المالية الاقتصادية التي ما نزال في طور الانحدار فيها، وبأن الاتفاق سوف يؤدي الى سلم غير معلن بين لبنان واسرائيل وهذا ما سينعكس عليه استقرارًا وأمنًا.
في أقل من أسبوع واحد تبدّدت الأوهام حول تلك الحسنات المدّعاة. فقد تبيّن أن الشركة الملتزمة التنقيب عن الغاز في حقولنا المفترضة تملك سلطة القول بأن نتيجة الحفر كانت صفرًا وجُلّ ما يمكن للجانب اللبناني أن يجيب على ذلك هو أن يحاول إقناعها بالحفر أكثر عمقًا. كما أن السلم غير المعلن الذي ارتجاه البعض وارتضاه البعض الآخر لم يكن إلّا سرابًا، والسبب لا يعود الى موقف الفريق اللبناني المعني بالصراع مع العدو ورغباته وأمانيه بل تبيّن أن هذه المسألة هي مسألة إقليمية لا نملك القرار فيها سواء على مستوى الدولة أو خارجها، وأن الاتفاقات التي تعقد على المستوى المحلي لا تسري على أصحاب القرار في الإقليم.
هذا ما خرج به لبنان من اتفاق تشرين الاول من العام الماضي، وفي مناسبة الذكرى السنوية الاولى على التوقيع تراكمت الأحداث المأسوية لتثبت أن ما حصل كان هزيمة للبنان لا يمكن تعويضها. وفي هذه المناسبة صدر كتاب بالفرنسية عن دار النهار للنشر للكاتب اللبناني الفرنسي ميشال غزال الذي رافق الوفد اللبناني المفاوض برئاسة العميد الركن بسام ياسين، وتولّى خلفَ الكواليس وضع استراتيجية التفاوض التي اعتمدها الوفد بنجاح ومهنية الى أن تمت إزاحته من المشهد وتمت متابعة المفاوضات من جهات أخرى أنتجت ما انتهى اليه الاتفاق. يوثق الكتاب الأحداث وخبايا تلك المفاوضات ويحللها من منطلق الاختصاص الذي يحمله الكاتب وهو علم المفاوضات وفنونها التي تخصص فيها ودرّسها ومارسها على مستوى عالمي منذ عقود. وبذلك تظهر للقارىء الفرصة التي أضاعها لبنان حين تخلّى مجانًا عن أوراق القوة التي كان يتمتع بها.
أهمية كتاب من هذا النوع هي بعده التاريخي حيث أنه وإن لن يعيد عقارب الساعة الى الوراء غير أنه سيشكل عبرة للمفاوضات المقبلة على لبنان بخصوص حدوده البحرية الشمالية وغيرها ولا سيما ما قد يستجد بشأن الحدود البرية، كما أنه رسالة لمن استسهل ما حصل العام الماضي بأن عملًا علميًا من هذا النوع لا يسمح بأن تمرّ الاحداث من دون حساب أمام التاريخ.