مقالات هيثم زعيتر >مقالات هيثم زعيتر
23 عاماً على استشهاد فارس عوده ... أوْلَدَ جيلاً مُقاوماً
جنوبيات
يُسطِّر أبناء الشعب الفلسطيني بطولاتهم ضد أعتى قوّة همجية عدوانية في العالم، قوّات الاحتلال الإسرائيلي.
مُنذ ما قبل نكبة فلسطين في العام 1948، حتى يومنا هذا، ما زالت العصابات الإسرائيلية تُنفّذ المجازر بحق أبناء الشعب الفلسطيني أطفالاً ونساءً وشيوخاً وتدميراً مُمنهجاً للمنازل والمُمتلكات والمساجد والمُستشفيات والمدارس ودور العبادة الإسلامية والمسيحية، وتدمير المُدن والبلدات والقُرى في خطّة مُمنهجة تهدف إلى مُوَاصلة اقتلاع أبناء الشعب الفلسطيني الصامدين فوق أرض الوطن، مُؤكدين على إفشال مُخطّط "الترانسفير" وتكرار نكبة 1948 ونكسة 1967.
يُواجه الفلسطينيون باللحم الحي مجازر الاحتلال التي لم يسبقه إليها أحد في تاريخ البشرية، بما تُشكّل من جرائم حرب وضد الإنسانية وتطهير عرقي وإبادة جماعية تُحاسب عليها القوانين الدولية.
الرد الفلسطيني الدائم على جرائم الاحتلال، هو بالإصرار على مُتابعة المسيرة الذي يتسلّمها جيل من آخر، وهو أكثر تمسّكاً بقضيته.
في مثل هذه الأيام قبل 23 عاماً، وتحديداً خلال "الانتفاضة الثانية" - "انتفاضة الأقصى"، لفت الأنظار الفتى الفلسطيني فارس فائق عوده، الذي تصدّى لدبابة الـ"ميركافا" الإسرائيلية "بحجر أعزل"، فأوقف تقدّمها إلى أنْ خطّط الاحتلال لاغتياله، الذي نفّذه بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2000 بالقنص العمد.
هدف الاحتلال من هذه الجريمة، إلى بثِّ الرعب والخوف في نفوس الأطفال والفلسطينيين، لكن كان الرد بتصعيد العمل النضالي المُقاوم، وهو ما نشهده في أيّامنا هذه، حيث يعمد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى تنفيذ المجازر والمذابح، في مُحاولة لبث الرُعب في أوساط الفلسطينيين، الذين يردّون على ذلك بالمزيد من الصبر والصمود والتضحيات.
بعد استشهاده، أصبح اسم فارس عوده، على كل شفة ولسان، ليبقى خالداً بين الفلسطينيين والعالم.
وُلِدَ فارس فايق عوده، يوم الأربعاء في 3 كانون الأول/ديسمبر 1986، وكان والده يعمل طبّاخاً في أحد المطاعم ليُعيل عائلته المُؤلّفة من 11 شخصاً: (الوالد فايق، الأم إنعام، وتسعة صبيان وابنتان).
تعلّم في "مدرسة تونس الإعدادية"، وكان مُتفوّقاً في دراسته.
لم يكن يتعمّد إغضاب والديه في الخروج من المدرسة من أجل اللعب واللهو، بل كان بعد انتهاء الدوام الرسمي للمدرسة، أو بعد الحصص الثلاث الأولى، يترك مدرسته، ليتوجّه إلى نقطة "نتساريم"، حيث كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يتواجدون هناك، ويُطلقون الرصاص باتجاه الفلسطينيين بعد اندلاع "الانتفاضة الثانية" - "انتفاضة الأقصى" يوم الخميس في 28 أيلول/سبتمبر 2000م.
كان فارس يبحث عن فرصة يتصدّى فيها للاحتلال الإسرائيلي. لم يكن خائفاً من دباباته الضخمة، وأسلحته المُتطوّرة، حيث أمطر جنود الاحتلال ودباباتهم بالحجارة، وهو يرقص الدبكة الفلسطينية، من على بُعد 5 أمتار فقط من دبابة الـ"ميركافا"، مُردّداً عبارته الشهيرة: "لن تمرّوا".
أصبح فارس نجماً إعلامياً، لأنّ كاميرات وسائل الإعلام بدأت تصوّره، وهو يُواجه قوّات الاحتلال ببراءة الطفولة وصلابة المُقاوم.
لم يُحب فارس الشهرة، بل كان يتجنّب التصوير، أو الظهور أمام عدسات الكاميرا، خشية رؤية والده فايق له، ومُعاقبته، لكن جرأته مكّنته من الاقتراب من دبابات الاحتلال، وقذف الحجارة باتجاه الجنود المُدجّجين بأعتى أسلحة الدمار.
أذهلت صُوَر فارس العالم أجمع، الذي كان يُشاهد معركة غير مُتكافئة بين دبابة إسرائيلية بكامل عتادها، وكيان مُتسلّح بحقده مع فتى أعزل، إلّا من إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ثم حقّه باستعادة أرضه المُحتلة، مهما قدّم من تضحيات، فتحوّل هذا الفتى المِقدام إلى نجمٍ إعلامي مُثير.
يوم الثلاثاء في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2000م، توجّه فارس للمُشاركة في مُواجهات "معبر المنطار" في غزّة. كان برفقته ابن خالته شادي عوض عوده، حيث أطلق جنود الاحتلال النار باتجاههما، أُصيب شادي، قبل أنْ يستشهد على أيدي قوّات الاحتلال، فزاد لهيب النار المُشتعل في قلب فارس، وأقسم على الانتقام لاستشهاد ابن خالته.
أبلغ فارس والدته بأنّ هذه الشهادة كان يجب أنْ تكون له.
شارك فارس في تشييع ابن خالته شادي، وأخذ إكليلاً من الزهور، كان قد وُضِعَ في موكب التشييع، بهدف تجهيزه لوضع صورته في داخله، وكتابة اسمه تحت الصورة "الشهيد البطل فارس عوده"، وهذا ما حصل بعد استشهاده.
يوم الأربعاء في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2000م، استيقظ فارس مُبكِراً في السادسة صباحاً، لأنّه كان قد أبصر ابن خالته الشهيد شادي في منامه، يناديه "فارس... فارس"، طالباً منه الذهاب إلى منطقة "المنطار".
أجابه فارس: "آه بدّي آخذ تارك وبالحجر، لأنّو بيهزّهم هز".
ذلك اليوم كان بداية حياة جديدة لفارس، وانطفأت شمعة مُضيئة في أسرته، اغتسل، وسرَّح شعره، على غير عادته، لم يرتد ملابس المدرسة التقليدية، بل ارتدى ملابس جديدة.
توجّه فارس إلى المدرسة، وحضر الحصّتين الثانية والثالثة، وبعدها رنَّ جرس الفرصة، هرول الفتية يلعبون ويصرخون، بينما كان فارس يسأل أحد رفاقه، إذا ما كان يريد الذهاب بصحبته إلى "المنطار"، لكنّه رفض.
أعطى فارس حقيبته إلى أحد رفاقه، طالباً منه إيصالها إلى منزل ذويه، وطلب من زميل آخر له مُساعدته للقفز عن سور المدرسة المُرتفع.
اقترب فارس كثيراً من دبابات الاحتلال الإسرائيلي، فحاول جندي من الشرطة الفلسطينية إبعاده، قائلاً له: "لا تُواجه عن قُرب وإبعد".
لكنّ فارساً كان ليث الغاب، يقترب من الدبابة، ويقذف جنودها بالحجارة، ولم يُبالِ بآلات الاحتلال ورشّاشاته، انحنى إلى الأرض بعدما انخلع حذاؤه، من شدّة قفزه وتراقصه، فاستغل جنود الاحتلال المُتربّصين به انحناءه، وأطلقوا النار عليه من رشّاش الدبابة، فأصابوه في عنقه، ولم يُدرِك رفاقه أنّه أُصيب، بالرغم من استنجاده بهم، لا لإغاثته، بل كي يحضروا له الحذاء الذي كان قد سقط أمام الدبابة.
تبيّن في ما بعد أنَّ رشاش الدبابة الذي أصابه كان مُزوّداً بكاتم للصوت، وكان جنود الاحتلال ينتهزون الفرصة لقنص فارس، الذي جعل منهم ومن دبّاباتهم وأسلحتهم أضحوكة أمام العالم.
انبطحوا أرضاً، وهم يجهشون بالبكاء، لم يتمكّن أحدهم من إسعاف فارس، لكن رفاقه أصرّوا على سحبه من أرض المعركة، وتمكّنوا، بعد وقت طويل من ذلك.
وأخيراً وصل إلى "مُستشفى الشفاء".
رَحَلَ فارس قبل أيام من الاحتفال بعيد ميلاده الرابع عشر، ليُزفَّ عريساً، وينضم إلى قوافل الشهداء.
شُيّع جثمان فارس في مُوكب مهيب، وبات صدى اسمه يتردّد في كل مكان، وحملت ساحات عدّة لافتات تشيد به، وأصبح قدوة ورمزاً للمُناضلين والثائرين والمُرابطين.
الفتى الذي حَمَلَ دمه على كفه، واختار طريق الشهادة، أصبح نموذجاً يُحتذى به، فقد أحبَّ الرئيس ياسر عرفات، الفتى فارس كثيراً، وتصدّرت صورته وهو يتصدّى للدبابة الإسرائيلية مكتب الرئيس في مقر المُقاطعة في رام الله بالضفّة الغربية من فلسطين المُحتلة، وأطلق عليه لقب "الجنرال"، وهو الذي لطالما حلم بأنْ يُصبح ضابطاً في المُستقبل.
صحيح أنّ دوائر النفوس الفلسطينية سجّلت فارس فايق عوده ضمن قيود الشهداء، لكن في المُقابل وُلِدَ مئات الفوارس، بينهم فارس عوده، ابن شقيقه جميل، الذي وُلِد يوم استشهاده، فحمل اسمه فارس عوده، كما أنّ شقيقيه سعيد ومحمد أطلقا اسم فارس على مولوديهما الجديدين، كذلك فعلت شقيقته خلود.