في نقطة ما على وجه البسيطة التقى العجوزان الرّوسيّ واللبنانيّ ودار بينها الحوار حول المآسي والأحزان، وأحداث تقشعرّ لهولها الأبدان.
سأل العجوز اللبنانيّ العجوز الرّوسيّ (بلغة لا يفهمها إلّا الكبار في السنّ):
لماذا اعتقلتك الحكومة ثلاث مرّات؟
أجاب العجوز الرّوسيّ:
"كنت شابًّا حين انضممتُ إلى الحزب، وكنتُ أرافِق مفوّض الحزب وهو يشرح تاريخ الحزب ومبادئه، وعند مرورنا أمام الكرملين قال لي:
إنّ سور الكرملين عالٍ.
سألته: لماذا هو عالٍ؟
قال لي: كي لا يقفز الحمقى من فوقهِ.
قلت له: من الخارج للداخل أم من الداخل للخارج؟
فاعتقلوني ولم يفرجوا عنّي حتّى مات ستالين.
وحين أفرجوا عنّي فَرِحتُ، ووضعتُ صورة خروتشوف بجانب صورة ستالين، فجاءني مفوّض الحزب وسألني: هل لا زلتَ تضع صورة هذا الأحمق؟
سألته: أي منهما؟
فأعادوني إلى السّجن، ولم يفرجوا عنّي حتّى مات خروتشوف.
وفي المرّة الأخيرة كنتُ أحتفل بعيد ميلاد أحد أحفادي، فاتّصل بي مفوَّض الحزب وقال لي: لماذا لم تأتِ إلى اجتماع الحزب الأخير؟
قلت له: لو علمتُ أنّه الأخير لكنت جئت مع كلّ عائلتي واحتفلنا. فاعتقلوني للمرّة الثّالثة.
وهذه حكايتي مع الاعتقالات الثّلاثة.
وهنا جاء دور العجوز الروسيّ الذي بدوره سأل العجوز اللبنانيّ عن حكايته باختصار وعن عمره الذي قضاه وأفناه في بلده لبنان.
أجاب العجوز اللبنانيّ: أنا لم أُعتقل في حياتي! ولكنّي عشت الاعتقال طوال عمري.
فسأله الروسيّ: وكيف ذلك؟!
أجاب اللبنانيّ: وُلدت في ظلّ الانتداب الفرنسي، وشهدت يوم الاستقلال، وتفتّح وعيي الشّبابي على ثورة عام ١٩٥٨، وعشت الحرب اللبنانيّة عام ١٩٧٥، وعايشت حروب الإلغاء، وكلّ الحروب مع العدوّ الصهيونيّ، والمناوشات العبثيّة بين مكوّنات الشعب، وفرحت بحرب التحرير، إلى أن جاء العهد الذي كنت فيه وأولادي وأحفادي نغوص في أبشع الحروب التي شهدتها البشريّة ومنها:
الحرب النوويّة الثّالثة في مرفأ بيروت.
الحرب الاقتصاديّة البائدة التي لم تبقِ ولم تذر، حيث أصبح الدّولار عصب الأشرار، فحلّ الخراب والدّمار على كلّ الدّيار.
ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، ألملم جراح الأيّام، وأقترض المال على الدّوام، وعيوني من القهر والقمع والاستبداد لا تنام.
وهأنذا أعيش حالة الاعتقال على كلّ الصّعد والمستويات، من إذلال إلى إذلال، ومن تجويع إلى تركيع، ومن زمن انقضى ووقت فات، حتّى يقولون ودمع العين ينهمر على الطرقات، إنّ فلانًا ابن فلان قد مات، ولتتوالى عليه الرّحمات...