بسرعة البرق الخاطفة مرّت الأيّام وتلتها الأسابيع، ثمّ الشّهور، فالسّنون، وبلغ الشّيب منّا مفرقًا. ولم نعد نبحث عن أصدقاء جدد، أو حتّى عن أناس نحبّهم ويحبّوننا.
وخطف العمر منّا الذّكريات المحزنة والجميلة، ولم نعد نكترث إن لبسنا الثّياب نفسها، أو أبدلناها بالجديد لكي يظهر منّا الشّباب.
كبرنا وأصبحنا نخاف على أهلنا بدلًا من الخوف منهم.
لم نعد نتجادل ولو كنّا على صواب. وصرنا ندع الأيّام تجري لتثبت صحّة آرائنا ووجهة نظرنا.
لقد أخذت منّا السّنوات كلّ ما فات. ولم نعد نتحدّث مع أحد عن آلامنا وأحزاننا. وأصبحنا نداوي أنفسنا بأنفسنا.
كبرنا، وصرنا نفرح بصمت، ونبكي بصمت، ونضحك بابتسامة تكاد تظهر. ولم نعد نهتمّ بنوع الهاتف الذي نمتلكه، ولا نوع السّيّارة، ولا حتّى رقمها.
لقد غيّر العمر من ملامحنا، فلم نعد نتأثّر بالكلام المعسول، ولا بالشّكل المَهُول، إذ بتنا نتطلّب أفعالًا نابعة من القلب لا كلامًا من اللسان.
لم نعد ننتقد الغير، بل أصبح كلامنا "الله يعين النّاس".
لقد أصبح همّنا أن نعطي الفقير صدقة، ونساعد المسكين، رغم ضيق ذات اليد.
كبرنا، وصرنا نميّز ما بين المظاهر الخدّاعة، وبين الصّادق والصّدوق. وتعلّمنا بحقّ أنّه ليس كلّ ما يلمع ذهبًا، وأنّ حبل الكذب قصير جدًّا.
صرنا نعرف بعمق من يحاول أن يضحك علينا، لا بل بتنا نتركه يصدّق نفسه بأنّه استغفلنا.
لقد بتنا نعرف متى نسامح ولا ننتقم. ومتى نتغابى، ونتجاهل أفعال الآخرين.
وبخبرة ما سلف، تعلّمنا ألّا ننتظر أي شيء من أحد، ولا نتأمّل خيرًا بأحد.
تعلّمنا كيف نكتفي بذاتنا، ومتى نثق، وبمن نثق.
كبرنا... نعم كبرنا، وأصبحنا ننتظر الرّحيل "برجاء" وعلى مهل، ونقترب من الأجل "عنوة" وعلى عجل.