منذ ما يقارب المئة يوم ويزيد على بدء تقويم "طوفان الأقصى" و"المقاومة الإسلامية" في لبنان تخوض حرباً لم تألفها من قبل هي أقرب ما تكون إلى "حرب استنزاف" غير محسومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي قد تمتد لفترة أطول من دون آفاق واضحة للنتائج، لكن على الرغم من ذلك استطاعت المقاومة رصد قدراته واستنزاف مقدراته بتكبيده خسائر مادية كبيرة وتدميرِ معنويات جنوده بجرهم إلى دائرةٍ محدودة من المواجهات المتقطعة، وهي التي اختبرت العدو عن كثب في "حرب تموز/يوليو 2006، حين بدأ تدريجياً يفقد عناصر قوته، وتحديداً يوم تجاوز بجيشه الحدود اللبنانية في 25 تموز/يوليو 2006 لتلتحم معه المقاومة الإسلامية في قتال متقارب (أو الانغماس).. فراكمت خبراتها حول تكتيكاته وأساليب مناوراته على مدى 33 يوماً، وبالرغم من إعلان وقف إطلاق للنار وإرساء قواعد الاشتباك على الحدود، أخذت الحرب شكلاً مختلفاً من الصراع بين المقاومة والعدو، يمكن تجزأته إلى ثلاث مراحل:
أولاً- مرحلة إعادة التنظيم والتموضع:
امتدّت منذ 14 أب/أغسطس 2006، حتى 4 أيلول/سبتمبر 2014، بادرت خلالها الوحدات الجهادية، العسكرية والأمنية في المقاومة الإسلامية فور انتهاء الحرب إلى حصد كل ما توفر من معلومات أمنية عن جيش الاحتلال وعن أساليب مناوراته خلال العدوان ومقاربتها مع الإجراءات التكتيكية للمقاومة من خلال محاكاة جديدة لمسرح العمليات أبرزت من خلالها نقاط القوة والضعف لكلا الطرفين مستخلصين الدروس والعبر فكان القرار الإستراتيجي بالعمل على "تطوير ترسانتها ورفع قدراتها القتاليّة في مواجهة العدو"، وأبرزها:
1- تكثيف الاستعلام الإستراتيجي والتكتيكي عبر تطوير الوسائل الخاصة لذلك.
2- توسيع ترسانة الصواريخ أرض- أرض كماً ونوعاً من حيث الدقة والمدى حتى تجاوز عددها الـ 150 ألف صاروخ يعتمد في إطلاقهم على إستراتيجية "أمطار من الصواريخ".
3 -البحث عن جيل جديد من أسلحة م/د.
4 -التنوع في تطوير القدرات الدفاعية الجوية وحاجة الميدان، لإرغام العدو في مرحلة أولى على جعل طائراته ومروحياته تحلق على ارتفاعات عالية، وتفعيل دور الصواريخ المضادة للبوارج.
5- إنشاء وحدة للمسيرات الانقضاضية قادرة على تحميل متفجرات أو صواريخ، ووحدة أخرى لردع مسيرات العدو.
6- ترميم وتطوير شبكة الاتصالات المعتمدة بعد انكشاف بعضها للعدو لتأمين القيادة والسيطرة.
7-بغية إنتاج نخبة النخبة من المجاهدين جرى تكثيف التدريب على القتال خلف خطوط العدو ضمن مجموعات صغيرة في مختلف الأماكن سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو اللبنانية (في حالة توغل العدو) في ظل ظروف قاسية ومناطق مختلفة من خلال الكمائن والإغارات على أنواعهم (زرع عبوات أو نسفيات، إطلاق صواريخ، الالتحام، الانغماس، التدمير والانسحاب…) فكانت "قوة الرضوان"…التي تتميز بالعناصر التالية:
- المفاجأة، السرية والسرعة،
- الاستطلاع، التضليل والخداع.
- العمل على عدة أهداف في وقت واحد.
-الحركة المستمرة وعدم التمسك بالأرض.
-الإنتاجية القصوى: أي اختيار الأهداف التي تؤثر سلباً على قدرة العدو القتالية.
أضف إلى خبراتها في مواجهة العدو فقد عزز مشاركتها في حرب سوريا عام 2011، من رفع مستوى التسلح وتقنيات القتال. حتى أصبحت "الحزب" الأكثر خبرة وتنظيماً وتسليحاً، لا بل "أضخم قوات غير نظامية مسلحة في العالم". حتى كان أول خرق لقواعد الاشتباك من قبل العدو لتبدأ معه المرحلة الثانية…
ثانياً - مرحلة المواجهة: امتدّت منذ 5 أيلول/سبتمبر 2014، حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، واجهت فيها المقاومة الإسلامية خروقات العدو لهذه القواعد سواء حصلت في لبنان أو في سوريا، بدأ أول خرق في 5 أيلول/سبتمبر، بإقدام العدو على تفجير جهاز تجسسي في جنوب لبنان أدى إلى استشهاد مجاهدين، ردت المقاومة بتفجير عبوة ناسفة في دورية للاحتلال في مزارع شبعا. وفي 1 أيلول/سبتمبر 2019، رداً على سقوط مسيّرتين للعدو في ضاحية بيروت الجنوبية، وفي أول عملية عسكرية بعد "حرب تموز" خارج مزارع شبعا استهدفت المقاومة آلية عسكرية بمستوطنة "أفيميم" أعقبها قصف إسرائيلي لمناطق حدودية، وتوالت خروقات العدو (عدا عن الخروقات الجوية والبحرية اليومية) حيث سُجل له خلال هذه المرحلة أكثر من 6 خروقات.
لتبدأ بعدها المرحلة الثالثة من الصراع في 8 تشرين الأول/أكتوبر بعد "طوفان الأقصى".
ثالثاً - مرحلة/حرب الاستنزاف (Static battle): هو مفهوم استراتيجي يُنظر إليه على أنه حوار بالنار بين طرفين يهدف إلى إضعاف أحدهم للآخر وصولاً لقبول حل ديبلوماسي، أو الاستمرار حتى الانهيار العسكري عن طريق إحداث الخسائر البشرية أو المادية، وطرق الاستنزاف تتم عادة بعد أن يتضح الأمر بأن المسارات العسكرية الأخرى تؤدي للفشل أو أنها غير ممكنة عملياً.
يتحدث الخبراء عنها كأمر يجب تفاديه لأنها عادة ما تكون طويلة. تهدف هذه المرحلة في منظور المقاومة إلى أمرين:
- سياسي: كما أعلنه السيد حسن نصرالله دعماً للقضية الفلسطينية وإسناداً لمقاومته، وإفساحاً في المجال أمام الحكومة اللبنانية للنشاط دبلوماسياً على محور انسحاب العدو من مزارع شبعا والنقاط المتنازع عليها على الخط الأزرق.
- عسكري: تقييد تحركات العدو على حدوده الشمالية لإرهاقه وإحداث أكبر خسائر فيها بغية منعه من سحب أي من قواته لدعم جبهته في "قطاع غزة.
سُجل للعدو منذ اندلاع الحرب على حدوده الشمال حوالي 3000 اعتداء أدت في بدايات الحرب إلى ارتفاع نسبة الإصابات بين المقاومين لعدة أسباب:
-العقيدة القتالية لحزب الله غير ملائمة أساساً لحرب استنزاف.
- انحصار مسرح عمليات المقاومة في بقعة محددة لعدم نيتها توسيع الحرب وحفاظاً على أرواح وأرزاق المواطنين.
-قدرات العدو الاستطلاعية والرد المباشر على مصادر النيران بواسطة تقنية عالية الدقة وتحديداً عبر المسيرات التي شكلت ما نسبته 80% من مجمل الإصابات في صفوف المقاومة.
لكن بالرغم من ذلك نجحت المقاومة في تثبيت قوات العدو لا بل أضطر لإرسال تعزيزات من الداخل الفلسطيني إلى جبهته الشمالية بعد تنفيذها لأكثر من 850 عملية أدت إلى خسائر بشرية ومادية في صفوف جيش الاحتلال، مما أجبر العدو إلى تغيير تكتيكاته حيث أجرى مناورة إخلاء لمواقعه ناشراً جنوده إما حول الموقع بشكل تمويهي أو داخل البيوت ضمن المستوطنات، فلاحقتهم المقاومة الإسلامية إلى هناك، وليس آخرها قنصها الضابط باراك أيلون من لواء حيرام 769 في مستوطنة كفريوفال.
كذلك ألزمت العدو الحد من نشاط حواماته على امتداد الحدود بعمق 10كم، أما في حرب المسيرات فقد استطاعت المقاومة في الآونة الأخيرة من إعماء مسيرات العدو بنسبة كبيرة بعد أن أسقطت له أكثر من 40 مسيرة مما ألزم العدو على إجراء تغييرات في نمطية عمل هذه المسيرات ستظهر بوادرها في المستقبل القريب..
لقد استطاع "حزب الله" أن يضيف إلى تاريخه العسكري وسجله المقاوم شكلاً آخر من أشكال القتال أربك العدو عسكرياً وسياسياً، وتحديداً قصفه لجبل ميرون لأهميته الإستراتيجية، ومقر قيادته الشمالية في "صفد"، على خلفية اغتيال الاحتلال "لصالح العاروري ووسام الطويل". فهل يكون استشهاد هؤلاء القادة بداية لاستهداف قيادات في الصف الأول للمقاومة الإسلامية ؟ وهو الذي أختبر ردات فعلها الإستراتيجية ضده، وهل سيبلغ به اليأس حد استهداف "بيئة المقاومة" بعد أن وصفها كجزء من البنية التحتية العسكرية "لحزب الله"؟ وهو يعلم أنّ صواريخه موجهة إلى "غوش دان" وما تشمله "غوش دان"؟….وهل تمتد حرب الاستنزاف هذه إلى الصيف بانتظار أهون الشريّن؟