اختلفت طبيعة الحرب اليوم ضد العدو الصهيوني عما كانت عليه في الماضي إن من حيث العقيدة القتاليّة أو من حيث نوعية الأسلحة أو حتى في تباعد الساحات، ففي حين كانت المعارك في الأمس تُخاض بالمباشر بين دول المواجهة من جهة: مصر، سوريا، لبنان والأردن والعدو الصهيوني من جهة أخرى، بالأسلوب العسكري التقليدي للجيوش النظامية، وبغير المباشر مع باقي الدول العربية الذين اقتصر دورهم في حينها على دعم الجيوش العربية من دول المواجهة في الجبهة الأمامية بقوات برية أو جوية أو وحدات لوجستية، لأسباب عديدة أبرزها أن لا حدود مشتركة بين هذه الدول وبين فلسطين المحتلة، حيث ساعدتهم الجغرافية السياسية على البقاء في الخلف بعيدين كل البعد عن المواجهة المباشرة… أصبحت اليوم غير مقيدة بالحدود الجغرافية، بعد أن امتلكت بعض البلدان العربية والإسلامية المصنفّة دول غير مواجهة مع العدو لصواريخ باليستية تكتيكية واستراتيجية، إضافة الى المسيرات الانقضاضية، قادرة على الوصول إلى الأراضي المحتلة، حيث استطاعت إحداث تغيير في أساليب القتال من خلال قدرتها على طيّ المسافات وبأعداد هائلة من الصواريخ الباليستية والمسيرات، لتتقدم هذه البلدان إلى الجبهة الأمامية حتى غدت ساحة من ساحات المواجهة مع فلسطين المحتلة، تحديداً إيران، العراق واليمن وإن من دون قوات برية في ميدان المواجهة...
وحيث أن العراق وبغض النظر عن الدوافع أول من كسر هذه المنظومة، حين أقدم صدام حسين خلال شهر يناير العام 1991 على تنفيذ وعيده بقصف تل أبيب بحوالي 39 صاروخاً من نوع "الحسين"، على أثر حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت)… وصولاً إلى الردّ الإيراني بهجمات صاروخية على الكيان المحتل ليل 14 أبريل العام 2024… كان لا بد من التوقف لدراسة الأسباب الموجبة والنتائج الاستراتيجية لهذه الهجمات بين عراق الأمس وإيران اليوم… ففي عراق الأمس جاء تهديد صدام حسين للكيان المحتل على خلفية احتلاله لدولة الكويت والإدانات الدولية التي لاحقته وطالبته بالانسحاب منها، وبالتالي لم يأت على خلفية اعتداء مباشر على أرض العراق، بل جاء بسبب حرصه على محاولة جرّ العدو الصهيوني للردّ على مصادر النيران، أي استدراجه لقصف أرض العراق لشحذ الهمم، ولإحداث صدع بين البلدان العربية والإسلامية المتحالفين مع الدول الأوروبية بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، من هنا صُنفت الهجمات الصاروخيّة لصدام حسين في خانة التعبئة الشعبوية، الهادفة إلى استجرار عطف الشعوب العربية والإسلامية، وليست عقائدية غايتها دعم القضية الفلسطينية، أو استراتيجية هدفها ردع العدوان الصهيوني على أرض العراق، وإلا ما معنى صمته وعدم ردّه على القصف الصهيوني الجوي لـ"مفاعل تموز" في 7 يونيو 1981؟… فلا تفسير آخر لها سوى أحلامه التوسعية على حساب الدول المجاورة للعراق إن في ايران أو الكويت أو من خلال قصفه للسعودية أو حتى مخططاته في العام 1983 لاجتياح سوريا… وبغض النظر عن الخسائر التي أصابت العدو، تبقى النتائج الاستراتيجية من هذه الهجمات هي الأهم، وهما نتيجتان لصالح العدو:
1. احداث انقلاب في العقيدة العسكرية الهجومية لدى العدو حيث اكتشف أن تفوقه التكنولوجي وامتلاكه للأسلحة النووية, لم يُشكلا قوة ردع كافية, وبات بحاجة إلى إنشاء عقيدة دفاعية متطورة توازي العقيدة الهجومية الصهيونية. في وقت أظهر نظام صواريخ مضاد (باتريوت) للصواريخ البالستية فشلا في التصدي للهجوم العراقي، كما فرضت على مجتمع المستوطنين الاستعداد بشكل كامل لحرب بأسلحة الدمار الشامل من أقنعة وألبسة واقية من الأسلحة الجرثومية والكيماوية.
2. الردّ الأنتقامي للعدو الصهيوني على قصف صدام حسين لتل أبيب، جاء من خلال مشاركة هذا العدو مشاركة كاملة في المعلومات الاستخباراتية التي ضخمت أسلحة الدمار الشامل العراقية، وبالتالي يتحمل القدر نفسه من المسؤولية التي تحملته أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في "فبركة" هذه المعلومات التي أدت لاجتياح العراق.
وبالتالي لم يردّ الكيان المحتل على هذه الهجمات تنفيذاً للمطلب الأمريكي، من هنا يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين والمحللين السياسيين أنّ هناك التباساً فاضحاً في القصف المزعوم، فما هو إلاّ "فيلم هوليوودي" بإخراج أمريكي- صهيوني لإظهار العراق في حينه بمظهر المعتدي على الكيان من دون وجه حق، والمُهدد للاستقرار العالمي، ما بات يشكل خطراً ليس على الدول الخليج ومصالح الغرب فيه، بل على ما هو أبعد من ذلك على كيان الغرب في الشرق الأوسط على الكيان الصهيوني…
في حين اليوم جاء الردّ الإيراني نتيجة صراع طويل من العداء والضربات المتبادلة مع الكيان الصهيوني، بدأت منذ حوالي أربعة عقود، من خلال العمليات التجسسية أو الخروقات السيبرانية أو الاغتيالات والتفجيرات، ومع ذلك بقيت هذه العمليات على جانب من الحذر في الوصول إلى مواجهة عسكرية علنية بينهما، الى حين كان الردّ الايراني الحاسم ليل 13- 14 أبريل 2024 على استهداف العدو الصهيوني للقنصلية الإيرانية في دمشق، حيث اعتبرته طهران تهديداً مباشراً للأمن القومي وانتهاكاً واضحاً للسيادة الايرانية، وتحت عنوان الاكتفاء بضربة محدودة لردّع العدو استراتيجياً حتى لا يستمر بعمليات اغتياله للديبلوماسيين الإيرانيين، أو حت لا تتكرر عمليات الاعتداء على سفاراتها، إضافة إلى ردّعه في استهداف الداخل الإيراني...
بدايةً هاجمت "طهران" بمئات المسيرات الرخيصة جداً الكيان المحتل، الذي أنفق بالمقابل مع حلفائه مليار دولار ونصف لاسقاطها، لم يستخدم الإيرانيون أياً من تقنياتهم الجديدة، بالتالي لم يكسب الصهاينة أياً من المعلومات الجديدة، لكن الإيرانيين حصلوا على كميات هائلة من المعلومات حول قدرات الأمريكيين والصهاينه، ثم أرسل الإيرانيون في مرحلة ثانية سلسلة من الصواريخ "كروز" القديمة، ومجدداً هاجمها الكيان مع حلفائه بصواريخ دفاعية باهظة الثمن، واستخدموا كل إمكاناتهم ما أعطى الإيرانيين كميات إضافية من المعلومات، من ثم واكبوها بإطلاق حفنة من الصواريخ البالستية الخطيرة استهدفت قاعدتين جويتين أساسيتين في الجنوب والشمال فأصابتهما مباشرة، وبما أنه لا يمكن الفصل ما بين الرد الإيراني وبين ما يجري في جنوب لبنان وغزة منذ "طوفان الأقصى"… أحدث هذا الردّ تحولات استراتيجية على مستوى العالم والصراع في المنطقة بما فيهما جبهتيّ غزة وجنوب لبنان، وذلك من خلال:
1. رسخت إيران صورتها على الساحة الدولية كقوة عالمية لها مكانتها، مظهرة قدراتها على خوض حروب عالية الكلفة اذا ما اقتضت الضرورة ذلك متجاوزة العقوبات المفروضة عليها, التي ظنّ الأمركيون والصهاينه أنها تضغط على مصالح ايران الاقتصادية واستقرارها السياسي الداخلي، ما يجعلها عاجزة غير قادرة على الردّ.
2. التخوف الرسمي والشعبي في الكيان الصهيوني من لجوء إيران إذا ما قررت مهاجمته بشكل مكثف وغير مسبوق أن تستخدم السلاح النووي أو البيولوجي إذا ما توفر لها ذلك.
3. أصبح التدخل الإيراني قائماً بدرجة عالية من القوة في حال توسع النزاع على الحدود اللبنانية الجنوبية مع فلسطين المحتلة، فما قبل الردّ الإيراني ليس مثل بعده، هذا ما أراد "حزب الله" إفهامه للعدو بواسطة المسيرات التي قطعت الحدود اللبنانية إلى عمق15 كلم لتضرب ثكنة "شراغا" شمال مدينة عكا في 23 أبريل 2024 وذلك لأول مرة منذ اندلاع المواجهات، وهذا ما تجلى أيضاً من خلال قصفه ولأول مرة مستعمرة "ميرون" والمستعمرات المحيطة بها في 28 أبريل، ما يفرض على الكيان الغاصب اعادة حساباته لجهة أوهامه بتحييد ايران عسكرياً عما يجري في المنطقة.
4. إسقاط المفهوم الخاطئ أنّ إيران "مردوعة"، كما وأنّ عدم الرد الفوري للكيان المحتل ومساعي واشنطن للتهدئة تؤسّس لمرحلة جديدة لم يعد فيها الأمريكيون ولا الأوروبيون قادرين على لجم التصعيد في المنطقة إذا ما تهورت حكومة العدو ضد حزب الله او ضد ايران.
5. على الرغم من أنّ الضربة الإيرانية سمحت للكيان الغاصب أن يقدم نفسه مجددًا كضحية في المحافل الدولية، فإنّ تأثيرها الإيجابي على حرب غزة أكبر، إذ سيؤخذ نفوذ إيران في الحسبان، ما دام تم تثبيت هذا النفوذ مع محور المقاومة، فلا يوجد انهيارات لأذرعها بالمنطقة، بدءاً بحركة حماس... وهذا ما ظهر من خلال إستئناف مصر جهود الوساطة والكيان المحتل، في وقت تنشط فيه الاتصالات بين الخارجيتين الايرانية - المصرية.
من هنا فإنّ التباين في النتائج الاسستراتجية بين ما حصل بالأمس وما حدث اليوم بات واضحاً، إذ لا مجال للمقارنة بين قصف صدام حسين الإعلامي بامتياز، الذي انتهى أمريكياً قبل أن يبدأ من أرض العراق ... وبين الردّ الايراني الصارم الذي بدأ ولم ينتهِ.. كونه قائم على ثوابت ردّع العدو إن من خلال مهاجمته المصالح الايرانية او في محاولاته توسعة الحرب على لبنان أو في استمرار حربه على غزة…فهل يرتدع ويتوقف قبل فوات الأوان؟…