هذه القصّة أخبرنيها أحد الأصدقاء القدامى ممّن حسنت سيرتهم، ونقت سريرتهم، وصدقت نواياهم.
يقول هذا الصّديق الصّدوق: خرجتُ بعدَ أدائي لصلاتي في أحد مساجد العاصمة بيروت، فوقَعَت عيناي على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السنِّ، يجلسُ على كرسيٍّ متحرّكٍ وبجانبهِ شخص يقوم على خدمته. فاقتربت منه وقبّلتُ رأسه، ثمَّ قلتُ له: "ادعُ لي يا عمّ".
فسألني: هل والدكَ على قيدِ الحياة؟
قلتُ: نعم.
ثمّ قالَ: ووالدتكَ؟
قلتُ: هي أيضًا على قيد الحياة.
فابتسمَ ابتسامةً ممزوجةً بأسى العُمرِ وأحزانِ الأيّام، وأردف قائلًا:
"إذًا أنتَ تاجرٌ كبير، فحافظ على تجارتكَ يا ولدي، فأولادي قد ضيّعوا تجارتَهم".
هنا أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني، ورجفة في قلبي، فقبّلتُ رأسَهُ ثانيةً ثمّ انصرفتُ عنهُ، وأنا أتمتمُ بلساني: "حافِظ على تجارتكَ يا ولدي، حافِظ على تجارتِكَ يا ولدي".
إنّها حقًّا "التّجارة الرّابحة".
فحياة والديك يعني امتلاككَ مفتاحينِ من أعظم مفاتيحِ الجنّةِ على الإطلاق، ولا أكونُ مبالغًا إن قلتُ: "مفتاحَينِ لجنّةِ الدّنيا قبل الآخرة"، {ومِن دونِهما جنّتان}.
فيا أيّها الأحبّة الكرام، "راجعوا تجارتَكم مع أمَّهاتكم وآباءكم قبلَ فواتِ الأوان. وطالما هما ينبضان بالحياة فوجودهما رحمة، ودعاؤهما ثروة لا تُعوّض، وبرّهما سفينة النّجاة في الدّنيا والآخرة.
يقول الله تعالى في محكم التّنزيل:
"وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحسانًا، إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما، وقل لهما قولًا كريمًا، واخفض لهما جناح الذلّ من الرّحمة، وقل ربّي ارحمهما كما ربّياني صغيرًا".
صدق الله العظيم.