إثر تعرض السفير الإسرائيلي في لندن شلومي أرغون، في 3 حزيران/يونيو 1982، لمحاولة اغتيال اتهم أبو نضال، المنشق عن حركة "فتح" بالوقوف وراءها، توترت الأجواء في المنطقة وقررت تل أبيب تنفيذ خطتها المعدّة سلفاً لغزو لبنان وتغيير موازين القوى فيه، وسحق منظمة التحرير التي كانت تتمركز في العرقوب وجنوب لبنان والبقاع الغربي وصولاً إلى صيدا وبيروت والمخيمات الفلسطينية المنتشرة حول معظم المدن اللبنانية.
ورغم أن السفير الإسرائيلي لم يُقتل، ورغم الهدوء الشامل الذي خيّم على الجبهة اللبنانية لمدة سبعة أشهر بموجب تفاهم رعته سابقاً الأمم المتحدة، تجاهلت تل أبيب مبادئ القانون الدولي وحدود الدول، وتخطّت مواقع الأمم المتحدة لحفظ السلام، ودفعت بقواتها، المستنفرة أصلاً، نحو لبنان للقيام بعملية "سلامة الجليل" التي بدأت بطلعات جوية استهدفت المدينة الرياضية في بيروت وكل المراكز التي اعتبرتها المخابرات الإسرائيلية "مشغولة" من الفصائل الفلسطينية التي كانت مرتبطة في ما بينها باتحاد هش تقوده "فتح".
كانت تلك المقاتلات جزءاً من أسطول جوي بلغ عدد طائراته 200 طائرة حربية إضافة إلى المروحيات وطائرات النقل والتجسس التي قاد بعضها ضباط أميركيون ومرتزقة، تماماً كما يحدث الآن في غزة.
وعلى الأرض، خصص ارييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي، ومعه رفائيل ايتان رئيس أركان الجيش، 72 ألف مقاتل مع 1200 دبابة وآلاف المركبات المدرعة لعملية الغزو التي شقّت طريقها بصعوبة داخل الأراضي اللبنانية، رغم تفوّقها الساحق في العدد والعتاد، ورغم تعاونها الكامل مع "القوات اللبنانية" والولايات المتحدة التي كانت جادة في تهيئة المناخ السياسي في منطقة الشرق الأوسط والعالم لتفكيك المعسكر الاشتراكي وإلحاق الهزيمة بموسكو.
رغم الدعايات التي نشرتها تل أبيب في العالم، بمساعدة الاعلام الأميركي البريطاني، بأن جيشها يجتاح لبنان بسهولة ممزقاً في طريقه فرق المقاومة الفلسطينية، إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً. إذ جوبه الغزو بمقاومة عنيفة في كل المناطق رغم المزاعم الصهيونية وتراجع كتائب من المقاومة في الجنوب إلى الداخل.
صحيح ان قوات الغزو تمكنت من احتلال الطريق الساحلي وطريق البقاع الغربي وطرقات الجبل، إلا انها دفعت مقابل كل موقع دماء تراكمت حتى بلغ منسوبها مستوى عالياً لم تكن تل أبيب تتوقعه. ولعل أهم المعارك التي عرقلت أو أوقفت الهجوم الإسرائيلي، معركة الشقيف التي دفعت مناحيم بيغن إلى الاكتئاب، وشارون إلى الجنون المؤقت، نظراً إلى الخسائر الفادحة التي تكبّدها الجيش الهجومي الإسرائيلي على أيدي المناضلين الفلسطينيين البواسل الذين استماتوا في الدفاع عن القلعة المطلة على فلسطين والمشرفة على الجنوب اللبناني.
كذلك نزف العدو نزفاً شديداً في خلدة على مشارف بيروت، على أيدي أبطال اللواء السوري بقيادة محمد حلال والمجموعات الإسلامية وحركة امل والحركة الوطنية. وحصل الأمر نفسه في عين دارة في الجبل والسلطان يعقوب في البقاع حيث أبلت القوات السورية البلاء الحسن.
مقابل هذا التقدم الذي أحرزه الغزاة على محاور متعددة بكلفة عالية، توجه قسم من جيش العدو نحو بيروت لحصارها وإسقاطها، متجاهلاً كل الإعلانات والتصريحات الإسرائيلية التي أكدت أن العملية لن تتخطى الأربعين كلم، وهي المسافة التي تضمن وقاية الجليل الأعلى المحتل من الكاتيوشا الفلسطينية.
تم تطويق بيروت من البحر والجو، ومن ناحيتي الشرق والجنوب، بقوات من النخبة استهدفت القيادات الفلسطينية واللبنانية ومقارها الأساسية، وقطعت التيار الكهربائي عن المدينة، ومنعت عنها الماء والغذاء والدواء، وأمطرتها بسيل كثيف ومتواصل من قذائف المدفعية وصواريخ الجو بهدف إخضاعها وتحويلها إلى مدينة تابعة للتحالف الصهيوني الانعزالي الذي بدا هشاً ومضطرباً على الأرض، نظراً لخوف "القوات اللبنانية" من الانغماس الكامل في حمأة الحرب التي بدأت في التصاعد، وتكشّف تردد المقاتل الإسرائيلي على الأرض وصد هجماته المدرعة قرب المتحف عشرات المرات على أيدي المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين الذين ارتفعت معنوياتهم، ما شدّ من أزر القيادات السياسية الذين كانت إسرائيل تطمح إلى وضعهم في اقفاص حديدية ونقلهم إلى الأرض المحتلة. لكن هذه البطولات لم تحل دون الوصول إلى اتفاق بإشراف المندوب الأميركي فيليب حبيب، قضى بوضع المخيمات الفلسطينية تحت حماية دولية، وبعدم دخول الغزاة إلى بيروت، وتسليم العاصمة للجيش اللبناني، وتسهيل خروج القوات السورية والقوات الفلسطينية بسلاحها وكرامتها.
بعد هذا العرض المكثف لأحداث الحرب العربية - الإسرائيلية التي شهدها لبنان صيف عام 1982 يمكن ان نجمع العديد من الخلاصات والعبر، لعل أبرزها الآتي:
- في حربها على لبنان التي دامت ثلاثة أشهر إبان صيف عام 1982، كما في حربها المفتوحة على غزة اليوم، خرقت دولة العنصرية والعدوان كل تعهد نطقت به على لسان قادتها، كما خرقت كل ما يمتّ بصلة إلى القانون الدولي والقيم الإنسانية والقرارات الدولية؛
- تبنّت في حربها على بيروت، كما في حربها على غزة، أسلوب الإبادة الجماعية، فقطعت خطوط الكهرباء ومنعت المياه والغذاء والدواء عن السكان، غير مكترثة للنداءات والإدانات التي تفجرت في وجهها من كل انحاء العالم.
- ركّزت حممها ونيرانها وقذائفها على المدنيين لحملهم على الاستسلام والثورة على قياداتهم السياسية. وكانت في كل مرة تخفق فيها في تحقيق انتصار ميداني، تروي غليلها بتكثيف الغارات على المدنيين والمؤسسات المدنية والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، فيتحول حصارها الدموي للآخر إلى حصار سياسي للذات. فالحصار الإسرائيلي الوحشي على غزة تحول إلى حصار عالمي واسع النطاق على تل أبيب في وقت أصبحت القضية الفلسطينية القضية الأولى في العالم والأكثر إلهاماً للأجيال الجديدة. وإذ برزت هذه الظاهرة بوضوح في حصار غزة، إلا أن طلائعها كانت قد بدأت في حصار بيروت عندما بلغت التظاهرات المناهضة للحرب ذروتها في شوارع تل أبيب.
- في حرب 1982 اهتزت صدقية "إسرائيل" خصوصاً بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، لكن ذلك الاهتزاز لم يترجم سياسياً كما هي الحال في حرب غزة اليوم، حيث انكشفت السردية الصهيونية على حقيقتها العنصرية، وتقدمت السردية الفلسطينية، وبرزت حقيقتها الإنسانية على الملأ في مختلف بقاع الأرض. صحيح ان "إسرائيل" استطاعت الإفلات من العقاب المباشر بسبب غياب الأجهزة التنفيذية لدى الهيئات والمؤسسات الدولية، كما بسبب التماهي الأميركي معها، إلا أنها لم تتمكن من الإفلات من العقاب السياسي والمعنوي الذي أخذ بعداً عالمياً يستحيل تجاهله أو تخطيه.
- أثبتت الحرب على لبنان عام 1982، كما الحرب على غزة اليوم، فشل سياسة الحديد والنار المقرونة بالعنصرية والرياء في كسر إرادة المقاومة وتجاوز حقوق الشعوب وتطلعاتها المشروعة نحو الحرية والعدالة والاستقلال.
- كما أكدت الحربان، وإن بدرجات متفاوتة، صعوبة خداع الرأي العام الدولي الذي استشعر خطورة النهج الإسرائيلي على السلام والأمن الدوليين كما على التجارة العالمية، ومن البديهي أن كل ذلك ليس من مصلحة المشروع الاستيطاني الإحتلالي الذي يعمل على طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وإقامة دولة يهودية خالصة على هذه الأرض.
- في حرب لبنان استطاعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" الظهور بمظهر الحليفين وإبقاء هامش ضيق بينهما يتيح لواشنطن لعب دور الوسيط، لكن في الحرب على غزة زالت كل الفوارق بينهما وظهرا فريقاً واحداً يوزع الأدوار من غرفة عمليات واحدة.
- إلى ذلك كله، لا يمكن إغفال دور وسائل الاتصال والتواصل - التي كانت ضعيفة أو محاصرة أبان الحرب على بيروت - في نقل حقائق الأحداث في غزة إلى العالم كله وفي اللحظة عينها، مما ساهم في تأليب الرأي العام الدولي الذي هاله مشهد المستشفيات المحروقة وصور الأطفال النازفين وهم يزحفون مع أمهاتهم تحت الأنقاض، مما ساهم في تشديد العزلة الدولية على المعتدي العنصري وبروز القضية الفلسطينية على المسرح العالمي قضية عادلة مشروعة تستدعي حلولاً مباشرة ومستقبلية على كل صعيد.
- في صيف عام 1982 كانت بيروت شبه وحيدة تحت الحصار الإسرائيلي لا يشاركها وحدتها إلا أبطال المقاومة الفلسطينية، مفتقرة لأي دعم ملموس سوى الدعم السوري الذي انحسر في الشهر الأول بعد معارك ضارية مع طلائع الجيش الإسرائيلي.
- جوهرياً لم يتغير شيء في الكيان الصهيوني ونظرته للآخر. فمن حصار بيروت إلى حصار غزة، برهنت جماعة الكيان على تجذرها في كهوف البدائية والعنصرية، وعلى استهتارها بحقوق الإنسان والدول واحتقارها للمواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية، خصوصاً قرارات الأمم المتحدة والمؤسسات المنبثقة عنها.
أما غزة الصامدة تحت الحصار الصهيوني والقبة الحديدية الأميركية فلم تعدم وجود حلفاء جديين يساندونها، من جنوب لبنان وجبال اليمن وفيافي العراق وسفوح جبل الشيخ والجولان.
وهذا التطور يمكن اعتباره من أهم التطورات التي شهدتها هذه الحرب، إذ فشلت "إسرائيل" في استفراد غزة، وإن حاصرتها بوحشية، فيما استطاع محور المقاومة أن يبرز في الميدان قوة فاعلة ومؤثرة.
حرب أم اجتياح
لقد عرّجت بسرعة على أحداث 1982 لأبرهن أن ما جرى لم يكن اجتياحاً كما زعمت "إسرائيل" وأنصارها في العالم والمنطقة، أو كما اعتبر أيضاً العديد من القوى السياسية والمواقع الإعلامية في بلادنا.
ذلك أن الاجتياح سقط بمجرد مقاومته ميدانياً أو عرقلة حركته أو إيقافها تماماً في العديد من المواقع حتى نهاية الحرب.
لقد تحول الاجتياح إلى حرب طاحنة بين العدو والتحالف الفلسطيني - اللبناني - السوري، حرب ينبغي تسميتها بالحرب العربية - الإسرائيلية الخامسة، سيّما أنها امتدت ثلاثة أشهر من دون أن يحقق فيها هذا العدو انتصاراً شاملاً، ومن دون أن ينتزع استسلاماً من أي طرف رغم ضخامة الجيوش التي استخدمها في غزوه، مستعيناً بمئات الطائرات والسفن الحربية والتغطية الأميركية، فضلاً عن عشرات خلايا التجسس الصهيونية المنتشرة بأشكال مختلفة على الأرض اللبنانية.
من يستعد تلك المرحلة يتذكر أن شارون كان يقود بنفسه المعارك ويطلق التصريحات النارية كل يوم مهدداً القادة اللبنانيين والفلسطينيين بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يرفعوا الرايات البيض. ولكن، عندما تأكد شارون، ومعه إيتان، من صمود المقاومة في الميدان، وبدأ يلمس المئات من جنوده وضباطه معارضة عنيفة من ضباط من جيشه وجماعات متزايدة في تل أبيب، أصابه صداع شديد - وصفه البعض كصداع الاسكندر عندما قاومته غزة لأشهر طويلة من دون أن تستسلم - فأصبح كالثور الهائج يتخبط من موقف إلى عكسه، حتى لاحت له الفرصة للانتقام من الفلسطينيين المدنيين بعد مصرع بشير الجميل، فهيأ بنفسه، وساعده إيتان، لمجزرة صبرا وشاتيلا التي شاركت فيها مجموعات من جيش لبنان الجنوبي والتنظيم والقوات اللبنانية. تلك المجزرة الرهيبة استمرت يومين واستشهد فيها حوالى ثلاثة آلاف ضحية بينهم عدد من اللبنانيين (عائلة المقداد) والسوريين. ولا ب من التذكير بأن الرئيس الأميركي يومها رونالد ريغن كان قد قدم ضمانات بعدم التعرض للمدنيين الفلسطينيين بعد انسحاب منظمة التحرير من بيروت لكن ذلك لم يمنع الإسرائيلي من ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا.
أدت تلك المجزرة التي تتكرر اليوم على أرض غزة إلى استنكار عالمي وعربي واسع، وإلى تصعيد حركات السلام داخل "إسرائيل" مظاهراتها وتحركاتها التي لقيت صدى واسعاً في عواصم العالم وأحرجت أكثرية العواصم العربية التي أشاحت بوجهها عن بيروت ومحنتها وركزت على مباريات كرة القدم وحفلات الاستعراض والترفيه.
بعد ذلك تفاقم اكتئاب مناحيم بيغن الذي بدأ في قلعة الشقيف ليتحول إلى مرض مزمن أفضى به إلى العزلة التامة.
أما شارون الذي تلقى الصدمة تلو الأخرى فحاول المكابرة وانكار فشله في تحقيق أهدافه الكبرى، مركزاً على تدخلاته السافرة في السياسة اللبنانية الداخلية وتحريض اللبنانيين على بعضهم البعض، وصولاً إلى اتفاق 17 أيار/مايو الذي سرعان ما انهار تحت وطأة المقاومة الشعبية الواسعة ومعارضة سوريا.