كما ارتبطت فلسطين منذ الآف السنين بمحيطها السوري واللبناني والأردني إن كان في الأبعاد الجيوتاريخية أو في التغييرات الجيوسياسية، كذلك ارتبطت عبر سيناء بمصر القديمة والحديثة في تاريخ طويل مملوء بالأحداث الدراماتيكية، إذ لطالما احتضنت "أم الدنيا" فلسطين في نضال مشترك ضد كل أشكال الهيمنة والاستعمار إلى أن كانت اتفاقية السلام المنفردة، اتفاقية "كامب ديفيد".
وفي عودة إلى التاريخ القديم فإنّ العلاقة بين مصر وفلسطين بدأت حين وصلت المنطقة (بلاد الشام) أولى موجات الهجرة للشعوب العربية القديمة، وهي قبائل سامية كنعانية جاء بعض منها من شبه الجزيرة العربية والبعض الآخر من الصحراء السورية، أمثال: الآراميون والمؤابيون والأموبيون والفينيقيون واليبوسيون… لتتوجه إحدى هذه الموجات الى الغرب فوصلت مصر حيث استقر جزء منها في سيناء والجزء الآخر على ضفاف نهر النيل مع بقية الوافدين من ليبيا وأثيوبيا وغيرهم... هذه القبائل التي اتخذت من منطقة لبنان، سوريا، الأردن وفلسطين موطناً لها، أُطلق عليها اسم بلاد كنعان (بلاد الشام لاحقا) أو أرض كنعان، أنشأت فيها هذه القبائل حضارة رائعة كانت محط إعجاب وشهية الشعوب القديمة. فقد اعتمدت على نظام المدن المستقلة، إذ كانوا أول من بنى مدينة في التاريخ وهي "أريحا"، وذلك قبل الميلاد بعشرة آلاف سنة كما بنوا ثاني أقدم مدينة في التاريخ وهي "الخليل"، اضافة إلى عدة مدن منها "رفح" على الحدود مع سيناء، واتخذوا عاصمة دينية لهم هي "أورسالم" نسبة إلى سالم إله السلام عند الكنعانيين والتي كان يطلق عليها أيضا أسم "يبوس" نسبة إلى اليبوسيين الذين كانوا اول من بنوها.
ادرك المصريون القدماء أهمية بلاد كنعان الجيواستراتيجية بالنسبة لبلدهم، وتحديداً فلسطين إن من حيث موقعها الجغرافي أو من حيث تنوع الأراضي الزراعية أو من حيث التبادل التجاري كالأخشاب وغيرها، أو من حيث سعيهم لخفض منسوب التهديد لأراضيهم الناجم عن حملات عسكرية معادية أو عن هجرة القبائل اليها أو عن قطّاع الطرق على خطوط الامداد. لذا نظم المصريون حملة عسكرية كبيرة على بلاد كنعان بقيادة تحتمس الثالث، فوصلت إلى تخوم مدينة "مجدو" شمال فلسطين فى العام 1468 قبل الميلاد، التي كان قد تجمع فيها جيوش حوالي 350 دويلة كنعانية لمواجهة المصريين، انتهت باستسلامهم للجيش المصري. ليبدأ من بعدها الصراع على النفوذ والتنازع في السيطرة على أرض كنعان، بين المصريين وحلفائهم الكنعانيين من جهة والآشوريين من جهة أخرى، لينتقل الصراع لاحقاً ضد الكلدانيين بعد زوال حكم الآشوريين... انتهى بخروج مصر من "بلاد كنعان" بعد حقبة طويلة من الزمن استمرت 12 قرناً اندمجت خلالها الحضارتين المصرية والكنعانية اندماجاً كبيراً…
لتعود مصر بعد مئات السنين إلى "بلاد الشام" مجدداً، مع بدء الحملات العسكرية عليها من قبل محمد علي باشا حاكم مصر الذي استطاع انتزاعها من السلطنة العثمانية في أوائل القرن الثامن عشر ميلادي ليكون اول حاكم مصري حديث يعطي وعلى غرار ملوك مصر القدماء، أولوية للجغرافية السياسية وللمحيط الإقليمي لبلاده إن كانت السودان أو بلاد الشام وتحديداً فلسطين التي ما إن سيطر على بعض مدنها وبالأخص غزة ويافا وحيفا من دون مقاومة، ومن بعدهم عكا، حتى قدّم رؤساء العشائر وأعيان سوريا ولاءهم المطلق له….
تلاه في القرن العشرين الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، حيث كان أول زعيم مصري يعتمد استراتيجية إيقاظ المشاعر الوطنية على مستوى الأمة كلها، حيث استطاع السيطرة على بلاد الشام من دون حاجته لحملات عسكرية، إذ اكتفى باحياء القومية العربية في نفوس الجماهير المصرية والعربية على حد سواء، كما عمل على تنشيط الأفكار التقدمية والتحررية من الهيمنة الإمبريالية العالمية التي لاقت رواجاً واسعاً… كما عرف "عبد الناصر" أهمية فلسطين بالنسبة للأمن القومي المصري ومكانتها في الوجدان العربي والإسلامي، فقد خاض حربها في العام 1948 حين كان ضابطاً، وكانت أحد الدوافع الرئيسة لثورة 22 يوليو، ولأنه صاحب مشروع رؤيوي واضح ولأنه قرأ التاريخ القديم والحديث للمنطقة بتبصر، أدرك أن على أي حاكم لمصر، أن يُعطي الأهمية الاستراتيجية لمحيط بلاده، فكيف إذا كان محيطها أفريقي - عربي - إسلامي، ما يُلزمه قطعاً اتباع سياسة المصير المشترك والقرار الموحد، فلا يمكنه صرف النظر عن الروابط القومية والدينية وحتى الاجتماعية التي تربطه بهذا المحيط لا سيما فلسطين... رحل عبد الناصر ورحلت معه أشياء كثيرة، إذ لم يول حاكم مصري من بعده أهميةً لمحيط مصر، بما فيها القضية الفلسطينية، حيث بدأ دور القاهرة يضعف شيئاً فشيئاً، إلى أن وصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم، للأسباب التالية:
1. المساعدات الأميركية التي تتلقاها مصر من جراء توقيعها لمعاهدة السلام مع العدو الصهيوني في العام 1978، ليست فقط لإبقاء مصر رهينة لسياسات الغرب، وضمان عدم تدخلها في أي صراع عسكري مع هذا الكيان فحسب، بل لحماية أمن العدو من المقاومة الفلسطينية، والأدهى هو قيام حكامها بدور الوسيط من اجل التوصل إلى تسوية سلمية تنهي الصراع العربي الصهيوني، على الطريقة الأميركية.
2. لم تحافظ القاهرة على ودها مع "حركة حماس" في غزة وبالتالي مع الفلسطينيين في كامل القطاع، حين شارك "حسني مبارك" في فرض حصار كارثي خلال حرب العدو الصهيوني في العام 2008 عليه، ما تسبب في أزمة إنسانية خطيرة، جعل من مصر وسيطاً غير محايد في وقت دأبت فيه وسائلُ إعلام "مبارك" والمسؤولون المصريون على مهاجمة "حماس".
3. التحالف الوثيق الذي نشأ بين مصر والعدو الصهيوني بعد انقلاب "السيسي" في العام 2013، والذي انطوى على سماح مصر للعدو بشن ضربات جوية سرية في سيناء ضد أهداف إرهابية مزعومة، وتدخل العدو نيابةً عن مصر لدى الولايات المتحدة لإلغاء حظر المساعدات العسكرية. كما فرض "السيسي" حصاراً أشد على غزة، حين أغلق معبر رفح لفترات طويلة ودمر الأنفاق. وسلط وسائل إعلامه على الأصل المشترك "لحركة حماس" وجماعة الإخوان المسلمين المصرية، وترويجهم لمجموعة واسعة من نظريات المؤامرة حول "حماس".
4. الأنظمة المتعاقبة التي حكمت مصر بعد "كامب ديفيد" أخذت تنظر إلى الفلسطينيين بعين الريبة، وإن أظهرت علناً دعمها للنضال الفلسطيني. إلا ان ممارساتها تعكس خلاف ذلك، وليس آخرها تهجم "السيسي" المستمر على أي فريق داخلي يتبنى القضية الفلسطينية.
بدأت القاهرة منذ العام 2021 بمحاولة العودة إلى دورها المعتاد الذي كانت تضطلع به منذ عهد "مبارك"، وهو دور "المطرقة والسندان"، إذ يعمل جهاز المخابرات العامة على ضمان الحد من التصعيد ووقف إطلاق النار كلما اندلعت التوترات بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وهذا ما حاول "السيسي" الفوز به مع اندلاع حرب "طوفان الأقصى" للحصول على بعض النفوذ السياسي في واشنطن والعواصم الغربية، حين قدم نفسه لقادة هذا العالم كوسيط يحاول نزع فتيل التوتر. بيد أن استمرار الحرب كشفت أنّ القاهرة فقدت الكثير من نفوذها الإقليمي وقدرتها على التأثير في محيطها. إذ لم تُسفر جهود الوساطة من أجل وقف التصعيد عن أي نتائج حتى الآن. بل على العكس من ذلك تصاعد العدوان الصهيوني واشتدت مجازره فتكاً وليس آخرها قصفه لخيم اللاجئين في رفح، وسيطرته في أواخر شهر مايو المنصرم على محور "فيلادلفيا" مخالفاً بذلك أحكام "معاهدة السلام"، و"اتفاقية أوسلو 2" عام 1995، حين وافق الاحتلال الصهيوني في الإبقاء على المحور بطول الحدود مع غزة كشريط آمن. ليُطلق النار مباشرة على الجيش المصري، فقتل جنديين في حادثة نادرة تثير الكثير من التساؤلات…
فهل هي رد انتقامي على عملية الجندي "محمد صلاح" التي نفذها في أواخر العام المنصرم، وأسفرت عن مقتل وإصابة خمسة جنود صهاينة واستشهاده؟… أم هو الغرور الصهيوني لإثبات وجوده على المحور؟ مهما كانت الأسباب تبقى الحادثة خرقاً فاضحاً ل"اتفاقية السلام"، فهل أصبحت هذه الاتفاقية عبئاً ثقيلاً على مصر؟ بعد أن تحولت لاتفاقية إلغاء للمقاومة الفلسطينية، مع ما يستتبعها من انهيار لحل الدولتين … واين مصلحة الأمن القومي المصري والإقليمي في كل هذا؟ وماذا عن تداعياته وتأثيره على المجتمع المصري؟ الذي طالما وقف الى جانب الشعب الفلسطيني، حيث حمل قضيته في كل مناسبة، حتى أنّ خطواته الأولى مع بدء انتفاضة يناير 2011 كانت دعماً علنياً للانتفاضة الفلسطينية…وليس آخرها موقف الجمهور المصري حين أطلق مكنوناته في ملاعب كرة القدم وعبّر عن دعمه للقضية الفلسطينية، التي كانت وستبقى درة الحالة الثورية في العالم العربي، لتتجاوزه اليوم حين شملت شعوب العالم الغربي في قارتيّه الأوروبية والأميركية، في تحول تاريخي لافت لم نشهده من قبل، بانتظار ما يحمله المستقبل من ارتدادات للهزات الانسانية التي أحدثتها غزة على مسرح السياسة الدولية اتجاه القضية الفلسطينية…