منذ بدء "حرب الاستنزاف" مع العدو الصهيوني دخلت الجبهة الشمالية ضمن دوائر من الهزات والهزات الارتدادية، تبعاً لصعود وهبوط قواعد الاشتباك مع ما يرافقها من "سمفونيات" التهديدات والتحذيرات شبه اليومية بتوسيع الحرب ضد "حزب الله"، كادت هذه الجبهة في لحظة ما أن تنزلق فعلياً إلى حرب إقليمية في تورايخ مختلفة، حيث وُضعت المنطقة جدياً على حافة الانهيار الشامل في ثلاثة مفاصل أساسية.
أولها عندما قدّم كل من يوآف غالانت (وزير الأمن) وهيرتسي هليفي (رئيس الأركان) توصياتهما لنتنياهو في شهر أكتوبر الماضي بضرورة شن هجوم ساحق على "حزب الله"، في موازاة الهجوم على "حركة حماس"، لكن "نتانياهو" تردد في اتخاذ القرار...
وثانيها خلال شهر فبراير من العام الحالي، حينما حاول جنود الاحتلال التسلل الى داخل الأراضي اللبنانية في محاولتين فاشلتين، حصلتا صبيحة وصول "آموس هوكشتاين" إلى بيروت ليغادر من بعدها إلى تل أبيب على وقع التهديدات الصهيونية، ثم جاء إطلاق عدد من الصواريخ الدقيقة من لبنان، فأصابت ولأول مرة مقر القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية في جيش الاحتلال شمال صفد، في حين سقط أحد الصواريخ في جنوب المدينة، ما اعتبره العدو الصهيوني تطوراً خطيراً على صعيد جبهة الشمال، في الوقت الذي لم يُعلن "حزب الله" مسؤوليته عن الهجوم، أتى قصف صفد بعد يوم واحد من رسالة قوية وجهها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، حين أعلن "استعداد الحزب لتوسيع نطاق المواجهة إذا ما سعى الكيان الغاصب إلى ذلك"، ومجدداً عاد "نتنياهو" وتراجع عن قرار الحرب الشاملة…
وثالثها عقب اغتيال العدو للقيادي الكبير "طالب سامي عبد الله"، المعروف بـ "أبو طالب"، مع رفاقه خلال شهر يونيو الحالي في قرية جويا جنوب لبنان، ليأتي رد المقاومة الإسلامية حاسماً، وسريعاً وواسعاً إذ لأول مرة منذ 8 أكتوبر الماضي يُطلق "حزب الله" حوالي 400 صاروخاً في اتجاهات مختلفة وبتوقيت واحد طالت مناطق الجليل وشمالي غور الأردن والجولان السوري المحتل ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا المحتلتين.
عقد على أثرها نتنياهو جلسة مصغّرة ل "كابينت الحرب" تحت مُسمّى"مشاورات"، كونه بحكم الملغى، للبحث بتطورات الجبهة الشمالية، مارس كل من "غالانت" و "هليفي" ضغوطهما مجددا على "نتنياهو" الذي بات اليوم أكثر استعداداً للنهاية المريرة، وتأتي مساعيهم لتوسيع الحرب في الشمال، طمعاً بتولي منصب رئاسة الحكومة، بالرغم من أنهم يسيرون ب "الكيان الصهوني" إلى هلاكه. وعلى وقع التهديدات الصهيونية عاد "هوكشتاين" مجدداً إلى المنطقة، وأطلّ سماحة الأمين العام ليُذكر الكيان وغيره للمرة الثانية: "إذا فرضت الحرب على لبنان فإنّ المقاومة ستقاتل بلا ضوابط وبلا قواعد وبلا أسقف"… وإذا لم يرتدعوا، فعندئذ: "انتظرونا براً وبحراً وجواً"… ليُجمّد قرار الحرب الشاملة للمرة الثالثة.
فعلى الرغم أن لدى العدو أسباباً كثيرة لتوسيع الحرب من جهة، فإنه من جهة أخرى لديه من الأسباب العديدة الرادعة، ما تجعله في تردد دائم، أبرزها:
1- أنّ "نتنياهو" هو المتحكم بالمشهدين السياسي والعسكري في الكيان المحتل بشكل كامل، وما التصريحات والتسريبات التي يتم تداولها في الإعلام الصهيوني من حين لآخر، ليست سوى جزء من إستراتيجية الضغط، يعتمدها للوصول إلى اتفاق دبلوماسي مع لبنان يحقق له شروطه. كما أن مصلحته تقضي بإطالة أمد الحرب إن في لبنان أو في غزة وإبقائهما على الوتيرة ذاتها، لرغبته في إطالة فترة وجوده في السلطة وعدم إنهاء حالة الحرب أقله قبل موعد الانتخابات الأميركية.
أضف إلى ذلك يقينه بأن سلاح المشاة في جيش الاحتلال ليس جاهزاً لخوض حرب جديدة، والجبهة الداخلية متصدعة وعلى شفى حرب أهلية، ويعلم أيضاً أن خيار الحرب الشاملة لن يكون سهلاً أو متاحاً، طالما لا وجود لدعم أميركي أو غطاء لها.
2- تأرجح تصريحات القيادات الصهيونية بين الخيارين الدبلوماسي والعسكري منذ أكتوبر الماضي، يؤكد ترددهم باتخاذ قرار الحرب الشاملة ضد لبنان، يعززه الإرباك الصهيوني حول سُبل التعامل مع المقاومة الإسلامية إن إعلامياً لما تشكله الحرب النفسية التي تخوضها ببراعة من ضغط على القيادات الصهيونية، وإن عسكرياً، بأبعادها الثلاث، ففي البر تمتلك المقاومة من القوة الصاروخية المضادة للدبابات ما يمكنها من عرقلة أي توغل للعدو شمالاً، في الوقت الذي يقف فيه عاجزاً أمام قذائف "ياسين" المحلية الصنع في غزة، وفي البحر قد أخرجت المقاومة بحرية العدو من المعادلة منذ العام 2006، عدا عما وصل إليها حديثاً من وسائل تعزز إمكاناتها في استهداف منصات النفط والسفن الصهيونية، أما في الجو فصواريخ المقاومة أرض - جو تهدد طائراته على علو منخفض، عدا عما تحمله الأجواء في المستقبل من مفاجآت…
3- تصريحات الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها لن تترك "حزب الله" وحيداً محاطاً بالخطر، ناهيك عن الدعم اللوجستي والصواريخ والمسيرات العابرة للدول، فالمقاتلين المتحالفين مع "حزب الله" جاهزين للتدخل من دول سوريا إلى العراق واليمن وباكستان وأفغانستان… حيث تفوق أعدادهم الـ100 ألف مقاتل من دون الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى أنّ الحرب الإقليمية قد تفتح شهية الكثير من التنظيمات غير الموالية لإيران ممن يرون أنّ الكيان الصهيوني إلى زوال.
4- سعي الإدارة الأميركية مؤخراً في التوصل لاتفاق تهدئة على كلتا الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة لما في ذلك من مردود إيجابي على حملة "بايدن".
وبما أنّ "واشنطن" تعلم جيداً حدود قدرات جيش الاحتلال، فقد حذرتهم عدة مرات، بأنّ "حزب الله" أصبح أقوى بكثير عما كان عليه عام 2006، وأنّ أي حرب شاملة ستؤدي إلى دمار كارثي للبنى التحتية للكيان الصهيوني واقتصاده، في ظل عزلة دبلوماسية واقتصادية متزايدة ناجمة عن جرائم الإبادة في غزة.وأنّ قدرة الولايات المتحدة في الدفاع عن الكيان المحتل ضد هجمات "حزب الله" محدودة، أكثر بكثير من قدرتها على اعتراض هجمات صاروخية أو بالمسيرات إذا شنته إيران على الكيان المحتل كما حصل في أبريل الماضي، فمقارنة بمكان وجود القوات الأميركية، وقصر المدى بين لبنان والأراضي المحتلة، من الصعب عليهم أن يكونوا قادرين على دعمهم بنفس الطريقة التي حصلت سابقاً. إضافة أنّ لا مصلحة إستراتيجية للولايات المتحدة في حرب إقليمية قد تُعرّض قواعدها في المنطقة للخطر المؤكد، ما يهدد وجودها ومصالحها في الشرق الأوسط.
5- مواقف دول عديدة ضد الحرب الشاملة وتحركها بأسلوب النصيحة للكيان المحتل عبر رسائل تحذيرية بأن حرب لبنان لن تكون نزهة والأسلحة التي يستخدمها حزب الله، والعمليات التي يقوم بها تظهر مدى الدقة، والقابلية على تطور الحرب بشكل يؤدي الى تدمير كبير في مجتمع المستوطنات، مع ضرورة أخذهم بالاعتبار تنامي قوة "حزب الله".
6- حرص الكيان المحتل ورهانه على إنجاح صفقة التطبيع مع المملكة العربية السعودية التي تحث عليها أميركا، ويسعى إليها الكيان لاعتقاده أنها ستخلق فرصاً استثمارية جديدة هو بحاجة لها، من أذربيجان إلى مصر، وبالتالي فإنّ أي توسيع للحرب ستؤخر حتماً مشروع التطبيع إلى أجلٍ غير معلوم.