أمام جموح القوى السياسية المتنافسة على السلطة في الولايات المتحدة الأميركية وفي غيرها من دول الغرب الكبرى، وتوسلها شتى أنواع الوسائل للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، يتراجع منطق الحقوق والعدالة الإنسانية وتتراجع قدرة الأصوات المنادية بها على التأثير في مقابل تصاعد نفوذ الجهات الأكثر نفوذاً والأكثر قدرة على تأمين الفوز وترجيح كفة المتنافسين وإن كانت مواقفها متناقضة مع ذلك المنطق. هذا ما يحصل اليوم في الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية حيث تستقبل الولايات المتحدة المتخبطة في ديمقراطيتها رئيس الوزراء الإسرائيلي وتستمع إلى خطابه المناقض للحق والقانون الدولي. ومن سخريات التاريخ أن يأتي الخطاب المنطلق من منطق القوة بعد أيام من قرار محكمة العدل الدولية حول عدم قانونية الاحتلال لتكتمل صورة التناقض الصارخ غير المسبوق بين موقف العدالة والقانون والحق من جهة وبين الواقع أو الدرك الذي تنحدر إليه سلطة القرار الامبراطورية من جهة أخرى.
لا بد للمراقب اليوم من أن يعاين هزيمة الحق أمام القوة وافتضاح حقيقة كون المبادئ المكرسة في الشرائع الدولية مجردة من أية مفاعيل واقعية أمام منطق الحياة الحقيقية القائم على صراع القوة. فمن يملك القوة يمارسها دون خوف من ردع القانون والضعيف عليه أن يدفع ثمن عدم امتلاكه القوة الكافية للانتصار في معركة الحياة. والمقصود بالضعيف هنا ليس أي تنظيم سياسي أو عسكري يواجه الاحتلال بل الشعب الذي تارةً يتعرض للذبح من المحتل وطوراً يقاسي القمع والتنكيل ممن يقاوم باسمه، وفق منطق القوة نفسه. وهو شعب يُباد على مراحل منذ أواسط القرن الماضي وتتدرج مراتب انتصاراته الورقية وفق تناسب تصاعدي مع مراحل ذبحه وتهجيره.
في الفلسفة هذا انتصار فعلي يثبته التاريخ مرة جديدة لفلسفة القوة التي نادى بها كثيرون وفي طليعتهم نيتشه. وهم على صواب لأن الحياة الدنيا ما هي إلا صراع بين القوى ومن يملك القوة لا يمكن أن يُقال له بأن يمتنع عن التعبير عن قوته وترجمتها على الأرض إلا عبر ردعه وبالقوة، وقد تبين أن القوة المستقلة أي قوة القانون أو الشرائع الدولية (والداخلية) لا تملك القدرة على التعبير عن نفسها وعلى الردع إلا على الضعيف أيضاً، في نوع من التواطؤ الفعلي مع الأقوى.
على المستوى الداخلي لا يختلف الأمر كثيراً، واللبنانيون يقاسون منذ عقود غياب منطق الحق والقانون وانحسار قدرة الشرائع الداخلية ووسائل تنفيذها على حمايتهم أو حماية حقوقهم. وقد تبين أن من يملك السلطة الفعلية، وهي ليست بالضرورة منبثقة عن الإرادة العامة الحقيقية، ومن يمسك بزمام القرار السياسي والاقتصادي والمالي، وهو جماعة سياسية مكونة من ائتلاف حاكم تتفاوت أحجام المنتسبين إليه وتتعارض مصالحهم أحياناً، يمارس منطق القوة للاحتفاظ بالسلطة دون حدود، حتى وإن كان ذلك عبر الإبادة الجماعية كما حصل في تفجير المرفأ أو في أزمة إفقار اللبنانيين عبر السطو غير القانوني على أموالهم.
شعوب المنطقة بعضها نال وطناً في نهاية مرحلة الاستعمار كالشعب اللبناني، وبعضها لم ينل وطنه كالشعب الفلسطيني الذي جيءَ بشعب آخر لاستبداله، وبعضها اغتصب وطن غيره كيهود أوروبا في فلسطين، لكن الجميع لم يهنأ، والجامع المشترك بينهم هو الهشاشة والخوف على المصير.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما قاسته الشعوب من مآسي التهجير والإبادة ومنها يهود أوروبا، قيل: "هنيئاً لمن كان له وطن". وردّت على هذا القول الفيلسوفة اليهودية الأشهر حنّة آردنت بالقول: "هنيئاً لمن ليس له وطن، لأن بإمكانه أن يحلم بوطن".