منذ نكبة فلسطين واحتلال القسم الأكبر من أراضيها من قبل المنظمات اليهودية الصهيونية المستوردة من أوروبا في العام 1948 ومن ثم هزيمة العام 1967، وهذه القضية موضوع صراع ليس فقط بين المحتل وصاحب الأرض في إطار السعي لتحريرها، بل كان هنالك على الدوام صراع آخر مواز أشدّ ضراوة وخطورة على الإمساك بورقة هذه القضية وحمل لوائها، وهو صراع بين الأنظمة في الدول المحيطة لا يهدف إلى تحرير الأرض المحتلة بقدر استعمال تلك القضية أولاً في كسب الشرعية الداخلية من قبل تلك الأنظمة التي عرفتها هذه المنطقة، وثانياً السيطرة على القرار في تلك القضية بهدف المساومة عليها والمفاوضة باسمها مع القوى العظمى وبيعها عند الحاجة بالجملة أو بالتجزئة. هذا ما حصل طوال عقود جرت فيها تصفية تلك القضية سواء بتسليم المزيد من الأرض لدولة الاحتلال أو بتسليم رقاب المزيد من أبناء الشعب الفلسطيني للقتل والتهجير.
هذا الصراع دفع لبنان الكثير من أثمانه وما يزال ودفع الشعب الفلسطيني أثماناً باهظة من جرائه لأن الخسائر التي مُني بها ذلك الشعب في المراحل التي كان فاقداً فيها للقرار الوطني المستقل كانت أكبر بكثير من تلك التي لحقت به في مراحل قراره المستقل، لا بل إن كثيرين يعتبرون أن المرحلة الوحيدة التي تم في استرجاع أجزاء من الأرض المحتلة كانت في فترة استقلال القرار الفلسطيني وإن كان ذلك بالمفاوضات والاتفاقات، في حين أنه عندما كان هنالك من يحارب باسمه ويمسك بقراره من الأنظمة خسر الشعب الفلسطيني أراضي 1948 وأراضي 1967.
لقد خاض الشعب الفلسطيني معارك كثيرة منها ما كان في المكان الخطأ وعلى أرض غير أرضه كما حصل في لبنان، وهذا تسبب له ولغيره بمآسي كثيرة، لكن أهم معاركه كان في سبيل تحقيق قراره المستقل عن الأنظمة العربية وغير العربية، ولم يحظَ إلا بفترات من النجاح النسبي في هذا الإطار. وها هو اليوم يدفع ثمن عدم استقلال قراره عبر خسارة عشرات الآلاف من أرواح أبنائه واحتمال خسارة قطاع غزة برمته.
حين يكون القرار أو الموقف متناقضاً بشكل واضح ومرئي بالعين المجردة مع المصلحة الوطنية، فهو لا يكون نابعاً من جهة تتمتع باستقلالية قرارها. لقد كان أجدى من اليوم الأول لطوفان الأقصى ألا تتوقف تلك العملية عند الاقتحام والأسر الذين حصلا بل أن تستمر وتتصاعد ويصار إلى تدفق آلاف المقاتلين إلى الداخل الفلسطيني والسيطرة على مدن استراتيجية، وأن يلاقي ذلك من الجانب اللبناني اقتحام مماثل يستفيد من الانهيار المعنوي في صفوف العدو ويحقق انتصاراً تاريخياً يكون على قدر الآمال. لكن ذلك لم يحصل لأسباب غير منطقية.
اليوم وبعد فقدان عنصر المبادرة، يقف لبنان والمنطقة على حافة الانزلاق إلى حرب مفتوحة تضيف إلى الدمار الكبير والمئات من الشهداء، دماراً ودماء لا يمكن التنبؤ بحجمها. فالقرار الإسرائيلي اليوم متخذ بالذهاب في هذا الاتجاه بهدف تغيير موازين القوى خلال الفترة الفاصلة عن استلام الإدارة الأميركية المقبلة مهامها وبدء المفاوضات لترتيب الأوضاع الإقليمية، الأمر الذي يتطلب من وجهة النظر الأميركية غير المعلنة طبعاً، وليس فقط من الوجهة الإسرائيلية، العمل على تخفيض عناصر القوة التي يحوز عليها اليوم محور إيران وحلفائها. هذه الحقيقة يرفضها ويتجاهلها كثيرون من المعنيين لكنها الحقيقة، وهي ما يدفع دولة الاحتلال، في ظل عجز من يواجهونها عن الإقدام أو التراجع، إلى التصعيد الذي لا سقف له قتلاً واغتيالاً وتدميراً لتبرير الحرب المطلوب منها تنفيذها.