الأربعاء 14 آب 2024 08:00 ص

بين الموت واللّاموت شعرة في غزة


* زينب الغنيمي

 

حول الأيام العاشر والحادي عشر والثاني عشر بعد الثلاثمائة لحرب الإبادة على غزة، 10-12 أغسطس 2024

يحدث أنه بين الموت واللّاموت شعرة، وهي المسافة الأصعب والأقسى على الناس في غزة

الموت حقيقة قائمة مفهومة ومقبولة مهما كان السبب، وبغض النظر عن رغبتنا أو أمنياتنا بأن نبقى نحن وأحبتنا على قيد الحياة، لكن ما حدث ويحدث في قطاع غزة غير مسبوق وغير مقبول وعصيّ على الاستيعاب، هو الموت بدون موت، أي حين تنقطع الأخبار عن أحدهم فيما لو كان حيًّا أو ميتًا، وهي حالةٌ أسوأ من الموت وأسوأ من الفقد تحت ركام الأنقاض، حيث يتأرجح الإحساس بين الحزن والفرح، إزاء من تنقطع أخبارهم، فنصبح بين نقيضين، حيث نفقد القدرة على الحزن للموت أو القدرة على الفرح لعدم الموت والنجاة، كما لا يوجد لهذه الحالة أيّ تكييفٍ قانوني أو واقعي.

والأكثر إيلامًا وقهرًا لبعض الناس لدرجةٍ تعتصر أعماقهم هو عدم قدرتهم عن الحديث عن حالة أحبّتهم، سواء علموا بأنّ أحبّتهم موتى ولكن ليس لديهم القدرة على إعلان حزنهم ولاحتى أخذ عزائهم، أو إن علموا بأنهم ما زالوا أحياء فلا يستطيعون إعلان فرحتهم، خوفًا عليهم من بطش الجيش الإسرائيلي وسرقته لفرحتهم المُوجَزة.

عشرات المجازر التي ارتكبها الجيش الصهيوني النازي باستهدافه المخيمات والمدارس وهي مراكز إيواء النازحات والنازحين، حيث الصاروخ الواحد الحارق يقتل العشرات دفعةً واحدةً، كما استخدم العدوّ القنابل المُميتة أيضًا في استهداف المنازل. ففي المجزرة التي حدثت خلال هذه الأيام في غزّة في مدرسة "التابعين"، ألقى الطيار الفاشي ثلاثةً من الصواريخ الحارقة بوزن ستّة آلاف رطل ليسقط أكثر من مائة شهيد، حيث تمزّقت أجسادهم المحترقة ولم يتمكّن أحدٌ من التعرّف على غالبيّتهم، وأُجبرت فرق الدفاع المدني على سحب الأشلاء ووضعها في أكياسٍ دون تحديد الهوية والجنس. 

بل حتّى ولأول مرّة، ولكي يتمكّنوا من تقدير عدد الضحايا، جرى وزن الأشلاء واعتبار أنّه بالمتوسّط كُلّ 70 كيلو تعادل أشلاء شخصٍ واحد، شهيدًا كان أم شهيدة. هذه الفاجعة مزّقت أيضًا صدور الناس، لأنهم الضربة لم متوقّعةً أبدًا، فقد حدثت أثناء الاستعداد لصلاة الفجر، الأمر الذي ترك الناس في حيرة: من الذي استشهد؟ وهل عزيزهم كان في المكان أم لم يكن؟ وهل هو على قيد الحياة في مكان آخر؟ وهل كان في ذات المكان ونجا ولا يمكن له ولهم التواصل سويًا؟ أم أنّه استشهد ولكن بقي تحت الأنقاض؟ وهكذا تدور الأسئلة الكثيرة حول الشعرة التي تفصل الحقيقة بين الموت والحياة، وهكذا لا تستطيع الزوجة أن تكون أرملة أو زوجة في آنٍ واحد، ولا تستطيع الأم أن تبكي وتحزن على المفقود كي لا يكون هذا فألًا سيئًا فيما لو كان ما زال حيًّا.

هذه الأزمة والحيرة بين إن كان شخصٌ ما حيٌّ أو ميّتٌ ليست بجديدة، ولكنّها تفاقمت أخيرًا على إثر الاستهدافات لمراكز الإيواء، وأيضًا بسبب نوع القنابل المستخدمة التي تحرق وتمزق أجساد الشهيدات والشهداء فلا تُعرف صاحبات وأصحاب الجثث.

أذكر واحدةً من الحالات السابقة منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة، عندما جاءت امرأةٌ تطلب منّي استشارةً لأنّها لم تعرف كيف تتصرّف في وضعها حينها، حيث كان زوجها قد فُقِد أثره منذ اليوم الأول في العدوان، وحاولت البحث عنه في السجون دون نتيجةٍ شافية، فقالت لي: "مين بيقدر يعطيني ورقة إنّي صرت أرملة وما في علم عن زوجي؟ وأهلي بيعتبروا إنّه زوجي ميت، وأهل زوجي بيعتبروه لسّه حيّ، مش عارفة شو أعمل والله محتارة!" طبعًا، كانت من جهة تشعر بالضياع قانونيًا وشرعيًا بخصوص اختفاء زوجها، ومن جهة أخرى كانت تسأل لأنها تريد حلّاً في تسيير حياتها وحياة عائلتها وكي تستطيع التسجيل للحصول على المعونات لأنّهم يطلبون اسم الزوج وهويّته وأن يحضر شخصيًا لاستلام المساعدة. 

وقد تواصلت معي إحدى الصديقات مبكّرًا لسببٍ مشابه، حيث تساءلت بخصوص حالة ابنها الذي لا تعرف مكانه بعد مرور شهرٍ على بدء العدوان، فقد تدمّر المبنى الذي كانوا يسكنونه، ولا تدري إن كان قد نجى مع إصابة وفرّ أو أنّه ما يزال تحت الأنقاض. هكذا إن، هي وغيرها وغيرهنّ يتساءلن كيف يصلن لمعرفة الحقيقة إن كان فلان حيًا أو ميّتًا، ويشعرن بالأسى والقهر لعدم معرفتهنّ للحقيقة وجميعهنّ يردّدن نفس القول "المهم نعرف هوّ ميّت أو لسّه عايش، وإحنا مُهيّئين أن يكون ميّتًا بس المهم نعرف". 

صحيح، المهم أن يعرفن ويعرفوا، لأنّ عدم المعرفة حربٌ أخرى على الأحياء الذين لم يأتيهم الموت، لأنّ تلك المسافة هي شعرة الحقيقة بين الحياة والموت، تُمزّق القلوب والفكر وتجعل الأمّ والزوجة والأب والأبناء يموتون ألف مرة يوميًا لكونهم عاجزين أمام غياب الحقيقة.

من مدينة غزة تحت القصف والحصار

المصدر :جنوبيات