الجمعة 23 آب 2024 09:50 ص

فاروق القدومي "أبو اللطف" .. قائد الدبلوماسية الفلسطينية


* جنوبيات

 

يرتبط اسم فاروق رفيق الأسعد القدومي "أبو اللطف" (94 عاماً) ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية.

رحل القائد الوطني، يوم الخميس في 22 آب/أغسطس 2024، في العاصمة الأردنية، عمان، بعد رحلة طويلة مع المرض، بعدما سبقته رفيقة عمره، نبيلة راشد صدقي النمر، بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2024، عن عُمرٍ يُناهز 86 عاماً.
رحيلٌ في ظروفٍ صعبة تمر بها القضية الفلسطينية، بفعل استمرار حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء الشعب الفلسطيني، بارتكاب المجازر والجرائم، غير المسبوقة على مُستوى العالم.
رحل واحد من أبرز القادة التاريخيين في تاريخ الثورة الفلسطينية، تاركاً بصمة في سجل النضال الفلسطيني، نظراً إلى دوره ومكانته المُتميزة فيه، والمُساهمة بتحويل نكبة اللجوء والتشرد إلى ثورة تحمل رايات التحرير والعودة، والدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
استطاع "أبو اللطف" قيادة الدبلوماسية الفلسطينية في مراحل غاية بالصعوبة، فتحققت الكثير من الإنجازات، من خلال الاعتراف الدولي بـ"مُنظمة التحرير الفلسطينية" مُمثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ومن ثم عضواً مُراقباً في الأُمم المُتحدة، وتوالي الاعترافات الدولية بدولة فلسطين.
امتاز بسعة معرفته واطلاعه وآرائه، ونظرته الثاقبة، فقاد الدبلوماسية الفلسطينية في مرحلة هامة، وكان أحد أبرز الوجوه الإعلامية والمنبرية للقضية.
ارتبط بعلاقة مُميزة مع القادة العرب، في طليعتهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حيث بنى علاقات ساهمت بتحقيق الاعتراف العربي والإقليمي والعالمي بالقضية الفلسطينية، إدراكاً أن هناك من يعمل على إذابة الهوية الوطنية الفلسطينية لاستيعاب الوجود الإسرائيلي على حساب الفلسطيني.
ثبُت أنه مُحارب بارع، مُناور واضح، ليخلص إلى وجهاية الطرح بعنفوان وثقة لا تتزعزع، انطلاقاً من الالتزام بالكفاح المُسلح مع تطوير النضال وأساليبه.
تمكن من أن يُلائم بين تربيته الوطنية، وخبرته السياسية، والعمل على توطيد العلاقات مع الفصائل والقوى الفلسطينية، وتطوير العلاقات عربياً ودولياً، ومع الحلفاء الأصدقاء والشعوب، ليبقى على مواقفه المبدئية التي آمن بها، بسيرة عطرة ناصعة البياض، نقية واضحة.
القائد الذي لم تُغره المراكز، لم يسعَ إلى أي منها، دفع ضريبة دفاعه عن مبادئه وقناعاته، والحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المُستقل، بما في ذلك السجن!
امتاز برجولته، وقول موقفه جهارة والدفاع عنه، وإن أدى ذلك إلى اتفاق أو اختلاف، لكن يبقى مُتمسكاً بموقفه.
يحفل سجل الراحل بالمواقف الوطنية الثابتة، وفي محافل مُتعددة، فبقي حاملاً راية النضال صموداً ودفاعاً عن الأرض، مُتمسكاً بالتحرير والعودة.
يتحدث عن الماضي بعين واقعية لاستشفاف المُستقبل، ويُؤكد دائماً أن بوصلته هي تجاه فلسطين، لن ولم تتغير أبداً، وأنه لن يزور فلسطين إلا وهي مُحررة.
رغم ابتعاد القدومي عن العمل اليومي في حركة "فتح"، إلا أن الوفاء من الرئيس محمود عباس له، كان بإعادة انتخابه عضواً دائماً في اللجنة المركزية للحركة في المُؤتمرين السادس والسابع، اللذين عُقدا بين 4-15 آب/أغسطس 2009 في بيت لحم و29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 حتى 4 كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته في رام الله.
شارك القدومي في تأسيس حركة "فتح"، مُنذ إعلان انطلاقها بتاريخ 1 كانون الثاني/يناير 1965.
بقي "أبو اللطف" عضواً في اللجنة المركزية لحركة "فتح" مُنذ ذلك التاريخ.
كان "أبو اللطف" مع الكفة المُرجحة ممن وُصفوا بـ"المجانين" على من صُنفوا بـ"العقلانيين"، الذين كانوا مُترددين يخشون مخاطر إعلان الانطلاقة من دون توافر الدعم الإعلان.
فيما "مجموعة المجانين"، كانت مع إشعال الثورة من دون انتظار موارد مالية من أحد، بل الاعتماد على القدرات الذاتية وبناء علاقات مُتوازنة.
أعلن الرئيس ياسر عرفات بتاريخ 1 كانون الثاني/يناير 1965، انطلاق الثورة الفلسطينية، بكلمة السر "حتى لا يغيب القمر"، سيصدر البلاغ رقم (1) عن القيادة العامة لـ"قوات العاصفة" - الجناح العسكري لحركة "فتح". 
يقول "أبو اللطف" في لقاء سابق لي معه عن ذلك: "أصل الحكاية، هي أننا كنا مجموعات فلسطينية من كل حد وصوب جمعها حب فلسطين، وبعد تجربتها المريرة، ذاقت درعاً بالواقع وأساليب النضال والقتال مع جيوش وأحزاب وجمعيات عربية وإسلامية، التقت على ضرورة إطلاق العمل الفدائي والكفاح المُسلح بقرار وطني فلسطيني مُستقل، إلى أن كان قرار الظهور علانية في العام 1964 بالإعلان عن انطلاقة العمل الفدائي".
 دخل "أبو اللطف" إلى اللجنة التنفيذية لـ"مُنظمة التحرير الفلسطينية" في العام 1969، وتولى مسؤولية دائرة التنظيم الشعبي فيها، وأصبح في العام 1973 رئيساً للدائرة السياسية حتى 13 أيلول/سبتمبر 2009.
بعد إعلان قيام دولة فلسطين خلال جلسة المجلس الوطني الفلسطيني، التي عُقدت في الجزائر بين 12-15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، انتخب وزيراً لخارجية فلسطين.
توزعت مهام "أبو اللطف" بين التوعية والإرشاد والتوجيه والتثقيف داخل حركة "فتح" و"مُنظمة التحرير الفلسطينية"، والحوارات المُتعددة التي أُكتشف لاحقاً أنها كانت استشفافية للمراحل اللاحقة.
في شهر أيلول/سبتمبر 1967 رتّب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لقاءً جمع الرئيس عبد الناصر مع وفد "فتح" برئاسة "أبو عمار" وضم إليه: صلاح خلف، خالد الحسن، هايل عبد الحميد وفاروق القدومي.
دعا الرئيس عبد الناصر إلى "إشعال حرائق في المنطقة، لأنه يُجهز لحرب التحرير بعد نكسة حزيران/يونيو 1967".
 أجابه "أبو عمار" بأنه "سيُشعل ثورة".
 رد الرئيس عبد الناصر عبارته الشهيرة: "إن هذه الثورة وُجدت لتبقى".
عندها رد "أبو عمار" "نعم يا سيادة الرئيس وُجدت لتبقى وتنتصر".
أولى ثمار النصر كانت في "معركة الكرامة" التي وقعت بتاريخ 21 آذار/مارس 1968 بين قوات الثورة الفلسطينية والجيش الأردني من جهة، في مُواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان أول نصر يتحقق على المُحتل.
توزعت الساحات التي شهدت الحراك السياسي للقدومي بين: الأردن، مصر، الكويت، السعودية، ليبيا، سوريا، لبنان وتونس.
إثر مُغادرة قيادات الثورة الفلسطينية بيروت في آب/أغسطس 1982، في أعقاب الغزو الإسرائيلي وحصار العاصمة اللبنانية في حزيران/يونيو 1982، انتقل القدومي إلى تونس.
بعد توقيع "اتفاق أوسلو" في أيلول/سبتمبر 1993، وعودة الرئيس "أبو عمار" إلى الأراضي الفلسطينية، رفض القدومي العودة إلى فلسطين المُحتلة، وبقي في تونس.
خلال عقد "القمة العربية" الـ14، في بيروت بين يومي الأربعاء والخميس 27-28 آذار/مارس 2002، اتخذ القدومي قراراً بانسحاب الوفد الفلسطيني، الذي كان يترأسه، احتجاجاً على عدم استجابة الرئيس اللبناني العماد إميل لحود، إفساح المجال لبث كلمة الرئيس "أبو عمار" عبر الأقمار الاصطناعية إلى قاعة اجتماع الرؤساء، خلال الجلسة الافتتاحية، بعدما منعه الاحتلال الإسرائيلي من مُغادرة مقر المُقاطعة في رام الله، للمُشاركة في القمة.
تضامنت عدد من الوفود مع الموقف الفلسطيني بالانسحاب من القمة، في طليعتهم ولي عهد المملكة العربية السعودية - آنذاك - الأمير عبدالله بن عبد العزيز، الذي أطلق مُبادرته الشهيرة، التي عُرفت باسم "المُبادرة العربية للسلام".
كما كان عدد من المسؤولين العرب قد أعلن تضامنه بعدم المُشاركة في أعمال القمة، أو بتخفيض مُستوى التمثيل، احتجاجاً على منع الرئيس الفلسطيني من مُغادرة رام الله.
ووجه الرئيس "أبو عمار" كلمته عبر قناة "الجزيرة"، أعلن فيها تأييده "المُبادرة التي تقدم بها الأمير عبدالله، التي ستتحول إلى مُبادرة عربية لسلام الشُجعان".
عاد القدومي إلى العاصمة الأردنية، عمان، في تشرين الأول/أكتوبر 2015، بعد إجراء عملية في القلب، وإغلاق الدائرة السياسية لـ"مُنظمة التحرير الفلسطينية"، التي كان يرأسها بشكل نهائي، حيث كانت بمثابة وزارة خارجية المُنظمة، وتتولى تعيين السفراء والدبلوماسيين ومُتابعة أعمالها في أكثر من 80 سفارة ومكتب في العالم.
أبصر الطفل فاروق القدومي النور في قرية جينيفوط، احدى قرى قلقيلية في فلسطين في شهر آب/أغسطس 1931.
توفى والده وهو طفل صغير، ما اضطره للعمل واستكمال دراسته.
درس الابتدائية والثانوية في يافا.
تفتح وعيه السياسي وهو في سن مُبكر، فانتسب إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي" في أربعينيات القرن الماضي.
بعد نكبة فلسطين في العام 1948، التحق بالجيش الأردني في العام 1949 قبل أن يتركه للعمل في السعودية حتى العام 1954.
شغفه للعلم، دفعه إلى ترك عمله، والعودة إلى الدراسة في "الجامعة الأميركية" في القاهرة في العام 1954، التي تخرّج منها في العام 1958، حاملاً شهادة الليسانس في الاقتصاد والعلوم السياسية.
من هناك انتقل للعمل في مجلس الإعمار الليبي، قبل العودة إلى العمل في وزارة البترول والثروة في المملكة العربية السعودية، ثم في الكويت حتى العام 1966.
تفوّق القدومي في الدراسة، وإبداعه في العمل، كانا حافزين له على الانخراط أكثر في النضال من أجل القضية الفلسطينية، حيث تعرّف في مصر إلى ياسر عرفات، محمود عباس، صلاح خلف وخليل الوزير، وشاركوا في تأسيس حركة "فتح" فتفرغ لمهام فيها وتولى مسؤولية تدريب كوادر الحركة.
تزوج فاروق القدومي من نبيلة راشد صدقي النمر (ابنة الوزير والنائب السابق في البرلمان الأردني بين 1957-1966 راشد صدقي النمر) المُناضلة في صفوف الثورة الفلسطينية، والتي ساهمت بتأسيس لجنة المرأة في حركة "فتح" مُنذ انطلاقتها، والتي رحلت بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2024، عن عُمرٍ يُناهز 86 عاماً.
وهي التي تفتح وعيها السياسي خلال دراستها في "جامعة القاهرة" في ستينيات القرن الماضي، حيث حصلت على ليسانس في الدراسات الاجتماعية والانتساب بشكل سري إلى احدى خلايا حركة "فتح"، التي مثلتها في العديد من المُؤتمرات العربية والدولية، وانتخبت عضواً في المجلس الثوري لحركة "فتح" في المُؤتمر العام الخامس في العام 1988، وعُينت نائبة للأمين العام المُساعد في "جامعة الدول العربية لشؤون فلسطين".
كانت أول إمرأة تُشارك في "مُؤتمر الأمة العربية" في بغداد.
ساهمت بتشكيل "المجلس العربي للطفولة والتنمية" برئاسة الأمير طلال عبد العزيز في العام 1989.
عُينت عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني مُنذ العام 2011.
وكذلك، عضواً في المجلس الاستشاري لحركة "فتح".
جرى توثيق مجموعة من اللقاءات الصحفية مع "أبو اللطف" في كتاب صدر عن "دار حنين للنشر والتوزيع" في تونس في العام 2012، تضمن تاريخاً وتوثيقاً لفترة تمتد مُنذ ولادته حتى العام 1998.
يقع الكتاب في 300 صفحة، عرض فيها القدومي لمراحل هامة ومفصلية من تاريخ الثورة الفلسطينية، خاصة ما يتعلق بالعمل الدبلوماسي ومُحاولات السيطرة على "مُنظمة التحرير الفلسطينية" والطعنات والمُؤامرات التي حيكت للقضاء على الثورة الفلسطينية.
أصدر القدومي بياناً بداية العام 2021 لمُناسبة ذكرى انطلاقة الثورة الـ56، أكد فيه على "أن "فتح" و"مُنظمة التحرير الفلسطينية" لا تزال تُؤمن بضرورة استمرارها بالخط الاستراتيجي الذي تبنته مُنذ سنوات، والقاضي بمُتابعة كفاحها المُسلح والسياسي حتى يتم تحقيق أهدافنا المشروعة وترفض أي مُؤامرة لتزييف أو تزوير إرادة شعبنا عبر المُحاولات اليائسة لإبراز قيادات بديلة، وتتصدى لأية مُحاولة لمسخ حقوقنا أو القفز عنها والبحث عن استراتيجية قادرة على ترجيح موازين القوى لصالح قضيتنا، قضية الحق والعدل والسلام.
إننا ندعوا جميع فصائل المُقاومة الفلسطينية الفاعلة للانضواء بإطار "مُنظمة التحرير الفلسطينية" تعزيزاً للوحدة الوطنية وحفاظاً على القرار الوطني الفلسطيني المُستقل".
رحم الله القائد الوطني فاروق القدومي، الذي بقي من الصامدين، بعدما سبقه رفاقه القادة من الرعيل الأول للفدائيين، الذين قدموا الغالي والنفيس في مسيرتهم النضالية، فوهبوا أرواحهم قرابين من أجل فلسطين، أو جرحى وأسرى ومُبعدين، وما زالوا يُقدمون التضحيات ويتناقلون جذوة النضال، رغم سنوات اللجوء الـ76، التي لم تُنسِ الأجيال الوليدة حقهم بأرض الآباء والأجداد، وهم تواقون للعودة إلى القدس، عاصمة دولة فلسطين، يوم تصدح مآذن المساجد والكنائس، مُهللةً مُرحبة بالمُناضلين الثائرين.

المصدر :اللواء