منذ إقدام العدو الصهيوني على جريمة اغتيال القائد فؤاد شكر، وقتله لعدد من المدنيين في ضاحية بيروت الجنوبية، وقبل أن يردّ عليه "حزب الله"، فجر 25 آب/أغسطس 2024، سعى سعيه طوال هذه الفترة لإنهاء حالة "ستاتيكو" حرب الاستنزاف القائمة منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، بغية الانتقال إلى المرحلة الثانية من الحرب من خلال توسيع أهدافها واصفاً إياها "بالحملات المتواصلة التي تشمل ساحات عديدة في لبنان"، وذلك في محاولة منه:
1- لإلغاء قواعد الاشتباك المعمول بها، من خلال تجميع عدة ضربات للبنى التحتية للمقاومة وتنفيذها في آن واحد، بغية الإيحاء بانتقاله إلى الحرب التمهيدية التي قد تسبق الحرب الإقليمية.
2- لفرض معادلة جديدة على "حزب الله"، يحاول فيها وضعه تحت سقف تدميري أعلى من سقفه وأشد ضراوة منه.
3- لترهيب "حزب الله" وردعه عن الردّ، عبر إطلاق جوقة من التهديدات السيكولوجية، جاءت على ألسنة المسؤولين السياسيين الصهاينة، بضرورة تحويل الجهد الرئيسي للقوات نحو الشمال، في وقت أصدر جيش الاحتلال بيانه الذي يفيد بأن 80% من الأنفاق على طول محور فيلادلفيا قد تم تدميرها، إضافة إلى إنجازات أخرى، بغية إقناع جمهور المستوطنين بنهاية الحرب في غزة، وبأن لا مانع لدى الجيش في الانتقال شمالاً، في إشارة إلى أن مشكلة مستوطني الشمال محض سياسية داخلية.
4- لقطع الطريق على المقاومة بضم أهداف جديدة لمواقع العدو في كل مرة تردّ بها على التصعيد الصهيوني المستمر.
لكن بالرغم من كل هذا فشل العدو في محاولاته فرض شروطه في الميدان، إذ سرعان ما حسم ردّ المقاومة الأمر بعد استهدافها 11 موقعاً عسكرياً للعدو للتغطية، والتمويه عن الهدف الأساس وهو قاعدة "جليلوت" حيث مقر الوحدة 8200، وبغض النظر عن الخسائر المادية والبشرية سواء حصلت أم لم تحصل، ومهما صرّح العدو عن ضربات استباقية قام بها، أو في ادعائه عدم استطاعة مسيرات "حزب الله" من الوصول إلى مقر الوحدة 8200، فإن ما حدث لا يمكن له أن يتجاوزه بسهولة حيث سيأخذ منه حيزاً عميقاً من الدراسة والتحليل، وذلك للأسباب التالية:
1- لأول مرة في التاريخ الحديث وعلى مدى عقود، يقف فيها أكبر تنظيم مسلح في العالم بكل جرأة وثقة ليتحدى أقوى جيوش الشرق الأوسط، وأكثرها دموية، والمدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تتوان بدورها عن إبلاغ المعنيين في لبنان رسالة صهيونية مفادها: "إذا كان هذا رد "حزب الله"، فنحن متعادلان"، ما يعني القبول بمعادلة الردع، والأخطر من القبول هو فيمن نقل الرسالة، وهي الإمبريالية الأميركية ورائدة التسلط العالمي التي وضعت "حزب الله" على رأس لوائح الإرهاب الدولي.
2- اقتران التحدي بالتنفيذ، حين أعلن "حزب الله" عن جديته بالردّ ونفّذ وعده، حيث أحسن انتقاءه للهدف، من بين أكثر منشآت العدو سرّية، ألا وهو مقر قيادة الوحدة 8200، والتي فشلت بدورها في توقع الهجوم على مقرها بالمسيرات الانقضاضية، مثلما فشلت سابقاً بتوقع حرب 1973.
3- يأتي استهداف الوحدة 8200 في ضاحية تل أبيب، ولأول مرة منذ نشأة الكيان، في إطار الضربة الذكية والموفقة، التي دفعت بالاحتلال إلى عدم الردّ بقسوة، وفرضت بالتالي توازن في الميدانين العسكري والأمني على حد سواء تقوم على أساس أن ضاحية بيروت الجنوبية يقابلها ضواحي تل أبيب، وأن استهداف شقة سكنية للمقاومة في الضاحية يقابله استهداف لمركز أمني أو عسكري ولو كان في تل أبيب.
4- فشل أمني وعسكري لمنظومة الردع الصهيونية، بعد أن حلقت مسيرات "حزب الله" في سماء فلسطين المحتلة، وتقدمت عبر عدة محاور جوية، لتدق أبواب مدينة تل أبيب متجاوزة مسافة الـ100 كلم من الحدود اللبنانية إلى داخل العمق الفلسطيني المحتل.
أمّا وقد طويت مبدئياً صفحة الرّد، بدأ العدو بالعودة تدريجياً بعملياته إلى مرحلة ما قبل الغارة الصهيونية على الضاحية الجنوبية في 30 تموز/يوليو، والى "قواعد الاشتباك" التي كانت قائمة وسط قناعة من الطرفين بالتعايش المرّ مع الوضع الحالي، تحت وطأة المراوحة على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة والمرشحة لأن تطول انطلاقاً من أنّ الحل في غزة مؤجل في ظل استمرار التعطيل الصهيوني لمسار المفاوضات بعد أن نسف نتنياهو صفقة التبادل 12 مرة، وما زادها تعقيداً تحويله للجهد العسكري شرقاً عبر الحملة العسكرية الأخيرة على الضفة الغربية، التي وبالرغم من إعلان جيش الاحتلال عن أهداف حملته، التي تتلخص بمحاولة القضاء على خلايا المقاومين، وإبقاء الضفة كحلبة ثانوية، وإحباط العمليات الخارجة منها.
إلا أنّ أهدافه غير المعلنة تبقى أشد خطورة، إذ يُرى فيها امتداد للتطهير العرقي على غزة بهدف فرض واقع جيوسياسي جديد في المنطقة، من خلال ثلاثة أمور: أولها الضغط باتجاه التهجير القسري والنهائي لسكان الضفة الغربية، مستفيداً من ضعف السلطة الفلسطينية والتواطؤ الغربي والتخاذل العربي، وثانيها القضاء على مسألة حل الدولتين بالضربة القاضية، وثالثها الانتقال إلى الجبهة الشمالية الأكثر تعقيداً بالنسبة له، بغية تنفيذ مخططه التهجيري لسكان جنوب الليطاني على غرار غزة أولاً والضفة ثانية، لتحقيق هدفه المنشود في إنشاء منطقة أمان على حدوده كافة خالية من الفلسطينيين واللبنانيين، بشعاع دائري يتراوح من 10 إلى 15 كلم. هذا المخطط إذا ما قُدر له النجاح فإنه سيمتد ليس فقط على فلسطينيي الداخل ولبنانيي الحدود بل الى دول المنطقة برمتها.
من هنا يستمر الرهان على محور المقاومة بالصمود وفي مقدمتهم حركة "حماس" من خلال استمراريتها بالقتال في الميدانين السياسي والعسكري.
أمّا في السياسي، فقد جعلت "حماس" من حكومات العالم التي كانت بالأمس مترددة في الاعتراف بفلسطين أن تندد اليوم بدولة الكيان المحتل، وتنادي بحل الدولتين، أمّا في الميدان العسكري فقد فشل العدو في أمرين، أولهما في تدمير جهاز حماس العسكري بالكامل حيث ما زالت تحافظ على 21 كتيبة من أصل 24، فعلى الرغم من صعوبة الحرب على حركة حماس على امتداد 11 شهراً، لم يستطع العدو من تدمير سوى 3 كتائب بشكل كلي إضافة إلى تضرر 7 كتائب أخرى إلا أنها تعافت جزئياً بعد إعادة تطويع مقاتلين جدد، وثانيهما في منع دائرة النار من أن تشتدّ وتتسع من حوله، فبالإضافة إلى انضمام كل من "حزب الله"، "الحوثيين"، "الحشد الشعبي" والجمهورية الإسلامية في إيران، إلى هذه الدائرة منذ بداية الحرب، ها هي اليوم تدخل الضفة الغربية إلى دائرة النار من بابها الواسع…
فهل تنتصر دائرة الأمان التي يسعى العدو لإنشائها على الحدود مع دول الجوار؟ أم أنّ دائرة النار ستجعله يتراجع عن ذلك؟
وهل سيقدر على وقف حروبه المتنقلة في ظل حكومة إرهابية، لا ترى فيها سوى حروباً وجودية؟
وسواءٌ عليها فاوَضَت أم لم تُفَاوض، فلن تجد لغة العقل إليها سبيلاً، بعد أن انتهكت كل المفاوضات وحطمت كل اللغات والاستراتيجيات، وتجاوزت كل مجازر التاريخ لتُسَطّر في سجلاتها مجازر أشد وقعاً، وتعود بأهدافها المتطرفة إلى الوراء، لتعزف بهم على كلمات "التناخ" قتلاً وتدميراً ورقصات مجنونة فوق جثث أطفال فلسطين.