الثلاثاء 10 أيلول 2024 18:40 م

على خلفية إستراتيجية "التطبيع"... المقاومة في مواجهة "حرب الإستنزاف"


* جنوبيات

"الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"

خط "التطبيع" من أجل دمج إسرائيل بنيوياً في المحيط، هو الإستراتيجية الحاكمة لسياسة الولايات المتحدة في الإقليم. "طوفان الأقصى" لم يقطع دابر هذه الإستراتيجية، لكنه أبطأ إندفاعتها. واشنطن - من جهتها - مازالت متمسكة بهذه الإستراتيجية لأنها تلبي مصالحها المباشرة في الإقليم، وتحقق في الوقت نفسه أهداف إستراتيجيتها العامة في إدامة موقعيتها على رأس النظام الدولي باحتواء نفوذ القوى المنافسة في الإقليم، وقطع الطريق أمام تمدد دور الصين.

على هذه الخلفية، حاولت الولايات المتحدة إستثمار "طوفان الأقصى" بالتفعيلات الإيجابية التي أحدثها إلى حرب تخدم أهدافها، فشجعت إسرائيل على إشعال فتيل الحرب، للقضاء على المقاومة الفلسطينية وتفكيك أوضاع جبهات الإسناد الداعمة لها.

إصطدم السعي الإسرائيلي بمقاومة الشعب الفلسطيني، فتحوَّلت إلى "حرب إستنزاف"، باتت تنال، مع إستمرارها، مقتلاً من التفوق العسكري للعدو، يضع الكيان على سكة تفاقم أزمته البنيوية، ليس مرئياً متى سيخرج منها.

وبالمقابل فإن الحالة الفلسطينية، رغم الخسائر الجسيمة التي لحقت بها، مازالت تواصل المقاومة بوحدة رائعة في الميدان، تفتح أمامها، مع مواصلة الصمود، أفق التقدم نحو إنجاز الحقوق الوطنية؛ ومرة أخرى تتأكد حقيقة أن القضية الفلسطينية، إلى جانب كونها قضية شعب يناضل من أجل التحرر الوطني وحق تقرير المصير، مازالت - كما كانت، وربما أكثر - محور إستقرار الإقليم وأمنه، ومفتاح تحولاته الإستراتيجية، وهذا مرهون - أيضاً - على ما سوف ترسو عليه الحرب من نتائج:

"حرب الإستنزاف"

من بين التوصيفات التي تُضفى على الحرب الدائر رحاها على أرض فلسطين وحدودها الشمالية، وصولاً إلى البحر الأحمر، بعد أن أغلقت هذه الحرب عدادها على شهرها الحادي عشر، وفي ضوء تقدمها حثيثاً نحو إكتمال عامها الأول، لعل أكثر هذه التوصيفات دقة ومطابقة لما هو قائم، هو «حرب الإستنزاف» التي تبرز السمة الفعلية للصراع الناشب، العسكري بأسلوبه، والوطني التحرري بمضمونه وأهدافه، كما يحملها منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ويناضل من أجلها ويضحي في سبيلها شعب فلسطين، في دورة الزمن الممعن في إدامة إغتصاب حقوقه الوطنية.

"حرب الإستنزاف" مضادة بالكامل لـ"العقيدة العسكرية" الإسرائيلية، القائمة على مفهوم «الحرب الخاطفة» التي تكون أرض العدو مسرح عملياتها، بينما ما نشهده اليوم هو أعمال حربية ممتدة، تدور بقسم وافر منها على أرض الكيان الغاصب، ما يعني أن الأسلوب الذي تُدار فيه الأمور، لم يكن خيار إسرائيل الأول، بل فُرِض عليها فرضاً، أي إضطُرت للإنسياق إليه رغماً عنها، لأسباب عدة، لم تكن دولة العدوان تُقَدِّر لا نشوءها، ولا تضافرها، ولا إمكانيتها على الإستمرار.

تتحرك هذه الأسباب على مستويين: الأول، هو السياق العام الذي أنتجها، لكون الحرب التي نشبت في 7/10، إكتست – منذ بدايتها - طابع الحرب ذات التداعيات الإقليمية، لا تقتصر مجرياتها على الدائرة الفلسطينية – الإسرائيلية المحض، بل تنداح بتفعيلاتها على محيطها. ومن الواضح أن حرباً من هذا القبيل، لا يمكن التحكم تماماً بمساراتها، أو حصرها في إطار زماني ومكاني قاطع المعالم، ولا التحسب المسبق لحجم ونوعية القوى التي تنخرط فيها، ولا التنبؤ بتفاعلاتها السياسية متعددة الدوائر والمستويات، ما يعني أنها ستكون حرباً مديدة، الإستنزاف يطبعها بميسمه، نمطاً وأسلوباً.

أما المستوى الثاني، فهو كناية عن 4 أسباب مباشرة: 1- صلابة الجبهة الفلسطينية التي إنصهرت في بوتقتها إرادة الشعب مع المقاومة؛ 2- الدور المؤثر سياسياً وفي الميدان لجبهات الإسناد، لا سيما الفاعلة منها على نحو متواصل منهجياً؛ 3- فقدان العدو لحصرية إمتلاك قوة الردع، التي ثُلمت على نحو مُعيب بالنسبة له على يد إختراق عملية «الطوفان» لكل الخطوط الحمر في ساعات الحرب الأولى، تلك القوة الردعية التي كانت تمنحه – فيما مضى - ميزة التفرد والتحكم بقرار التصعيد بوجهة الحسم؛ 4- التفاعلات الخارجية متعددة الصيغ والأشكال، من حركة الشارع إلى قرارات الشرعية الدولية، تلك التفاعلات الضاغطة على مركز القرار في واشنطن، بعد أن أضحت هي إحدى العناصر المؤثرة في السياسة الداخلية؛ كما في تل أبيب، حيث صبَّت الزيت على نار الملفات الخلافية – وما أكثرها – وفي المقدمة ملف الأسرى المحتجزين لدى المقاومة.

"حرب الإستنزاف" التي إنجر إليها العدو بفعل صلابة المقاومة، تضعه أمام خيارين، كلاهما يعكس أزمته المستحكمة، ويقودان بالنتيجة إلى الإعتراف بالهزيمة:

• إما الإنكفاء، الذي يعني إعتراف إسرائيل بعجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة، ما يساوي الهزيمة في هذه الحرب التي تُصنف ضمن فئة الحروب غير المتناظرة، حيث يَهزم التشكيل الفدائي التشكيل النظامي، عندما لا يُمَكِّن الأخير من تحقيق مراميه.
• أو التصعيد، الذي – بدوره – يصطدم بعقبتين: 1- قدرة جبهة المقاومة على الرد في ضوء إدراك العدو عدم إستطاعته تحمل الخسائر البشرية، على نقيض من يواجهه؛ 2- عدم موافقة واشنطن للإنجرار إلى حرب واسعة على مستوى الإقليم، لتعارضها مع مصالحها؛ فالحرب التي نحن بصددها هي «حرب أميركية» من زاوية الإمداد والتمويل والإستخبار وتوفير المظلة السياسية، إلى جانب التموضع العسكري على تخوم مسرح العمليات والتلويح بالتدخل كلما إقتضى الأمر؛ ومن هنا مرجعية واشنطن القاطعة فيما يتعلق بقرارات السياسة العليا التي تبت بمستوى التصعيد، وتوقيته.

إن خوض «حرب إستنزاف» ضد قوات الإحتلال ستكون نتائجها عنصراً مهماً، إن لم يكن الأهم، في رسم نهاية الحرب الضارية في القطاع، وفي التأثير على المواجهات الجارية في الضفة، وفي إجهاض مشروع الحكومة الإسرائيلية لمستقبل الضفة والقدس والقطاع مع

الشعب مصدر المقاومة، وحاميها

تنطلق المقاومة ضد الإحتلال من الشعب والمجتمع أولاً، ولولا إنخراط الشعب والمجتمع بأسره في المقاومة، لما كان بإمكان الأجنحة العسكرية أن تصمد طيلة هذه الفترة في المعارك المُكْلِفة بقطاع غزة، آخذين بالإعتبار الإختلال الواسع في ميزان القوى بين إمكانيات الحركة الفلسطينية باعتبارها قائمة على تشكيلات فدائية، في جغرافيا ضيقة ومحاصرة، وبين إمكانيات العدو الصهيوني العسكرية المتفوقة، بخطوط إمداد سخية ومفتوحة، وهذا يؤشر مرة أخرى إلى عمق العلاقة التي تربط المقاومة بمجتمعها وبجماهيرها، ما يعني أننا أمام شعب واحد، ذي إرادة سياسية موحدة، واستعداد عالٍ لتقديم كل التضحيات اللازمة من أجل مستقبل الوطن، حريته واستقلاله.

التنسيق بين مختلف الأجنحة العسكرية في الميدان، حيث تخاض المعارك، إن كان في القطاع أو في الضفة الغربية أو القدس، متقدم ومثمر وواعد، الثغرة بالوضع الفلسطيني أو العقدة فيه ليست في هذا الجانب، بل بالإفتقاد إلى الوحدة الداخلية، فالساحة الفلسطينية تنحكم لأكثر من تصور سياسي، ولأكثر من رؤية إستراتيجية، ولأكثر من مرجعية تنظيمية، فيضحى المطروح بشكل مباشر على جدول أعمال الحركة الوطنية، هو السعي بشكل جدي للوصول إلى توافقات، تجمع بين طاقات جميع القوى الفاعلة، وتوحدها. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن التنسيق والتعاون الجاري بين مختلف فصائل العمل الوطني على أرض المعركة، يلتقي مع إستعداد مجتمعي وجماهيري متقدم لإسناد هذا العمل بكل الطاقات المتوفرة.

من هنا أهمية تسليط الضوء على حقيقة أن الشعب هو المقاومة، المجتمع هو المُنْجِب والحاضن معاً للمقاومة الذي يمدها بعناصر القوة والتجدد؛ أما التشكيلات العسكرية، فهي عبارة عن أذرع تنفيذية لهذه الإرادة الشعبية، إرادة المجتمع الفلسطيني للمقاومة بكل الوسائل المتاحة من أجل وضع حد للعدوان الصهيوني المتمادي على الشعب.

إن أكثر من يدرك الأهمية الفائقة، لا بل المصيرية، للعلاقة الوثيقة القائمة بين المقاومة والشعب، هو العدو الإسرائيلي، الذي إستخلص، بعد حرب 2006 ضد المقاومة في لبنان، ما أسماه بـ«عقيدة الضاحية» نسبة للضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، كما بلورها غينادي أيزنكوت – رئيس هيئة الأركان الأسبق، والتي تدور حول الفكرة المركزية التالية: إن إلحاق الدمار الواسع بالبنية التحتية وبالعمار عموماً في المعسكر المعادي، إذ يؤدي بالأضرار الفادحة التي يتسبب بها إلى فصل الشعب وإبعاده عن المقاومة، أي عزلها عنه، فهو يشكل الخطوة اللازمة لإلحاق الهزيمة بالعمل المقاوم

«الطوفان»: مرحلة جديدة في حرب الإستقلال

معادلات النضال، والشروط التي تتحكم بالعملية الكفاحية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر، تَغَيَّرت على نحو نوعي، أي ما كان مسلماً به قبل 7/10، لم يَعُدْ كذلك، حيث بتنا حالياً أمام سياق استراتيجي ومعادلات سياسية مختلفة نوعياً عما سبق؛ وفي الوقت نفسه، لا بد من الإشارة إلى أن خيار المقاومة، خيار القتال، إرادة القتال، إرادة الصمود، كل هذا بات من المسلمات، فهذه الأمور - أساساً - ليست مستجدة أو طارئة على الشعب الفلسطيني، الذي مرَّ بأكثر من مرحلة، واجتاز أكثر من محطة، أبدى فيها جاهزية عالية لخوض أصعب المعارك، في أصعب الظروف، وبأغلى التضحيات، ما يعتبر من الموروث المتراكم على امتداد عقود النضال المنقضية؛ لكن الجديد الآن، هو أن الشعب الفلسطيني بات أمام خيار له الأولوية بلا منازع على ما عداه، ألا وهو المقاومة، المقاومة بكل أشكالها. لذلك، نعتبر أن حرب «طوفان الأقصى»، إنما تؤذن بمرحلة نوعية في المواجهة بين المشروع الإسرائيلي الإستعماري من جهة، وبين المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، من جهة أخرى.

هذه المرحلة لا تقاس زمنياً بالشهور، بل بمديات أطول، وتخاض بأشكال مختلفة في ساحات عدة، لذلك ينبغي أن نَعُدَّ العدة كفصائل وكحركة جماهيرية وكمجتمع فلسطيني، لمواجهة هذه الحرب المديدة، بكل ما ينجم عنها من تضحيات وما يترتب عليها من مسؤوليات، فالحرب التي نحن بصددها هي الحرب الأخيرة التي لا حرب بعدها، نحن الآن أمام حرب الشعب التي ستقود إلى التحرير، والإستقلال، وطرد الإحتلال، وممارسة الحق في تقرير المصير؛ وبالتالي، فإن مواجهة هذه الحرب ومترتباتها، تستدعي إتخاذ كل الإجراءات اللازمة، التي من شأنها أن تُحشّد الطاقات الفلسطينية على أرض فلسطين وخارجها، وفي كل مكان لكي نرقى بأوضاعنا إلى مستوى التحدي
 
رسالة جبهات الإسناد

رسالة جبهات الإسناد واضحة تماماً، ومضمونها أن القوى التي تنتمي إلى جبهة المقاومة، وهي قوى حركة تحرر وطني بالأساس، لن تدع العدو الإسرائيلي وحلفاءه يستفردون بالشعب الفلسطيني، فهذا الشعب يملك عمقاً نضالياً حقيقياً بمعانيه الدلالية، ومضامينه السياسية والأخلاقية والعسكرية والمادية، والمؤكد أن هذه الرسالة قد وصلت وبشكل واضح إلى معسكر الأعداء، ونقدّر أن جبهات الإسناد مقبلة على مزيد من النشاط والعمل؛ وبالتالي، فإن دورها الداعم في المعركة الدائر رحاها حالياً على أرض فلسطين، سوف يتعزز في الفترة القادمة، بدليل ما يجري حالياً على جبهة المواجهة بين شمال فلسطين المحتلة وجنوب لبنان، ما يؤشر إلى المنحى الصاعد للمواجهة الجارية فصولاً في أكثر من موقع ومكان، على أرض فلسطين قطاعاً وضفة، وعلى حدود فلسطين، لا بل يتجاوزها في المدى والتأثير.

المستوى الذي آلت إليه الأمور عسكرياً في جنوب لبنان، يؤكد أن جبهة القتال هذه مؤثرة على العدو الإسرائيلي، ومربكة لأوضاعه، لا بل مستنزفة لإمكانياته، ما يؤكده إضطرار عشرات آلاف المستوطنين لإخلاء أوكارهم شمال فلسطين المحتلة، مما شكل ضغطاً حقيقياً على الحكومة، وعلى المجتمع الإسرائيلي بأسره؛ إذن نحن أمام جبهة إشتباك، إذا صح أنها تندرج تحت عنوان «الدعم والإسناد»، فإنها تكتسي أكثر فأكثر مضموناً لـ«المشاركة» الحقيقية وبآفاق متسعة في الحرب، بحيث باتت جزءاً لا يتجزأ من العناصر والمكونات التي تصب في صناعة ميزان القوى وتعزيزه في المعارك المحتدمة في فلسطين، وبكل التداعيات التي تطلقها في مدى الإقليم.

وإلى ما سبق نضيف: صحيح أن الحرب الدائرة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين تنحكم إلى ما يسمى بـ«قواعد الإشتباك»، لكنها «قواعد» متحركة بسقف صاعد، أي أنها تزداد إحتداماً وسخونة، وبالتالي فهي تضعنا يومياً أمام معادلات متدحرجة بدينامية عالية. نحن لسنا أمام جبهة ثابتة، أو ميدان معركة محكوم بمعادلات مرئية مسبقاً بنتائجها، بل نحن أمام ميدان يُنبيء بمزيد من الإتساع والفعالية، وبالتالي علينا أن ندقق بما يمكن أن تؤدي إليه الأوضاع الآن على جبهات الإسناد والمشاغلة، آخذين في حساباتنا أنها لا تخضع بجميع مكوناتها للقوانين نفسها، للقواعد ذاتها، حيث لكل مكون خصوصيته، واعتباراته، وصولاً إلى أولوياته، لكننا نلاحظ بارتياح فعالية المحور الفاعل على الجبهة السورية – اللبنانية المتحدة.

وفي هذا السياق لا يفوتنا أن هذه الجبهة، بالذات – إلى جانب إنحكامها إلى قواعد إشتباك ترسم حدودها- فقد دخل عليها عامل آخر هو: الصراع على من يتحكم بميزان الردع، ما جعل سقفها يتحرك صعوداً. إذن نحن أمام فعل «قانونين» متداخلين، يضفي ثانيهما المتمثل بمن يتفوق في ميزان الردع، المزيد من الدينامية على الأول، المقيَّد بقواعد الإشتباك. إن هذا التداعي، بحِراكه وتفاعلاته، يضع المقاومة على جبهة شمال فلسطين أمام إحتمالات التصعيد.

إن دخول المقاومة مرحلة «حرب الإستنزاف» أمر يتطلب من جبهات الإسناد والمشاغلة هي الأخرى تطوير أدواتها وأساليبها القتالية، بحيث تنغلق الدائرة على العدو، ويستمر بالأحمال الثقيلة التي وضعتها على كتفيه «حرب الإستنزاف» المستمرة، ما يرغمه في نهاية المطاف إلى التسليم بما يضمن المصلحة الوطنية كما تراها المقاومة. وبالنتيجة فإن وقف إطلاق النار- حتى بعد وقوعه – فإنه لن ينجح في محو النتائج التي أحدثتها في المنطقة جبهات الإسناد والمشاغلة

الدور الأميركي

إن غرفة العمليات المركزية في واشنطن، هي التي تمسك بقرار إيقاف الحرب عند مستوى معين من الإحتدام، فالقرار بالتصعيد ليس قراراً إسرائيلياً «صافياً» كما هو معروف، ورغم كل المناورات التي تشيع أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، «تتمرد» على قرار واشنطن، أو تشق عصا الطاعة على الإدارة الأميركية، فهي ليست أكثر من كلام إستهلاكي، والخلافات الناشبة بين الحين والآخر ليست سوى «إحتقانات» عابرة في علاقات العروة الوثقى بين الطرفين؛ والمعروف أن قرار التصعيد النوعي من عدمه، يُتخذ في غرفة عمليات تتمركز في واشنطن داخل البيت الأبيض، لا بل في المكتب البيضاوي، وليس في مكان آخر.

في هذا الإطار علينا أن نلاحظ أن الولايات المتحدة في الوقت، الذي تعمل فيه بدأب من أجل منع إنفجار الحرب الشاملة في الإقليم لتعارضها مع مصالحها، فإنها لا تعمل من أجل وقف الحرب طالما ما زالت تتحرك تحت سقف الهدف المتفق عليه مع إسرائيل: القضاء على المقاومة في الضفة والقطاع، بما يخدم الإجهاز لاحقاً على المقاومة بشكل عام، أو تفكيكها بكل مكوناتها في الإقليم، على طريق إزالة العقبات التي مازالت تعترض سبيل إحكام الولايات المتحدة سيطرتها على أوضاع إقليم غرب آسيا، الذي يحتل المشرق العربي مركز القلب فيه.

من جهة أخرى، وبغض النظر عن قرار التدرج بالتصعيد، فإن 7 أكتوبر، إذ وضع حداً لما يسمى إمتلاك إسرائيل لقوة الردع التي لا تُصد ولا تُرد، فإن جيش العدو بات مضطراً للتخلي عن أحد مرتكزات عقيدته القتالية المتمثلة بامتلاك ميزة «الهيمنة على قرار التصعيد»، أو «التحكم بقرار التصعيد»، فعندما تصطدم آلته العسكرية بعقبات غير متوقعة، فهو يزج في المعركة بمزيد من القوى والإمكانيات. ومن هنا الشعار الذي ما إنفكت تروجه – لا بل تتباهى به - مستوياته القيادية، بمناسبة  ودون مناسبة: «ما لا يُحل بالقوة، يُحَل بمزيد من القوة»، علماً أن «فرط القوة» - إذا لم يحقق أغراضه – فإنه يتحول إلى «عجز القوة». وبتقديرنا أن العدو لم يعد بعيداً عن هذه الظاهرة.

في هذا الإطار نلاحظ مايلي: إن هذا العنصر في العقيدة العسكرية الإسرائيلية المتمثل بما تدعيه من إنفرادها بامتلاك ميزة التحكم بقرار التصعيد هذا، لم يعد بمقدوره أن يغيِّر كثيراً في ميزان القوى في المواجهة المستعرة على كل الجبهات، فإذا كان بمقدور إسرائيل أن تصعّد فبوسع قوى المقاومة أن تصعّد هي الأخرى؛ إذن هناك عملية تداعٍ لم تعد فيها الهيمنة أو القدرة أو التحكم بآليات التصعيد حكراً على قرار العدو، إنما باتت ملكاً للطرفين المتواجهين، ما يضع معطيات الميدان، أمام عملية تصعيدية ذات آفاق أرحب، لا ندعي بأن أحداً من مكونات جبهة المقاومة، يستطيع أن يتحكم  مُبادئاً بمغاليقها، وبخاصة المكون الفلسطيني، لاعتبار وجود قوى كبرى تتحكم بالمعادلات، وتبقى ممسكة بزمام المبادرة، ما يعني أن الفترة القادمة ستكون فترة تنزع فيها إسرائيل إلى التصعيد، وإن بسقف مدروس، على الأقل ضمن المديات السياسية التي يخطط لها العدو وحكومته، لكن إمكانيات المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد مجتمعة ومنسقة، تبقى مالكة للقدرة، وقادرة على الرد المناسب والمتناسب

العلاقة بين حروب المنطقة والصراع لإعادة بناء النظام الدولي

من بوابة فلسطين والإقليم عموماً، تخوض الولايات المتحدة الأميركية – وبالتحليل الأخير، من موقع دفاعي إستراتيجياً، رغم كل مظاهر العدوانية الهجومية التي تحاول إشاعتها - معركة إدامة سيطرتها على النظام الدولي قيد المراجعة، فواشنطن قوة سياسية وعسكرية وإقتصادية، ومالية متفوقة، ومع ذلك فهي تواجه تحديات كبرى لها علاقة بتصاعد دور العديد من الدول والأطر التي تجمع عدداً معتبراً منها، إن على الصعيد القاري أو الدولي. وفي هذا الإطار نخص بالذكر الدور الصيني نظراً لاستثنائية وتيرة صعوده، إن في الإقتصاد أو في القوة العسكرية، فضلاً عن إمتلاك مفاتيح التكنولوجيا الشاهقة والذكاء الإصطناعي، الخ..

في مواجهة هذه التحديات، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تترك هذه المنطقة التي تعتبر بالجغرافيا غرب آسيا، بما هي ساحة صراع جيوسياسي بامتياز، لمن ينافسها على النفوذ، وبالتالي عندما تساند واشنطن إسرائيل، فإن أنظارها تكون شاخصة إلى روسيا والصين وإيران، كما وإلى حلفائهم في الإقليم، وبهذا المعنى لا تريد الولايات المتحدة أن تصل الأمور إلى حرب شاملة، بل إلى ما تُقَدِّر أنه يشكل نقطة توازن، تسمح لها بإدامة وإحكام سيطرتها على المنطقة، بعد تفكيك البنى العسكرية الخارجة عن تبعيتها.

وعلينا أن لا ننسى أن الولايات المتحدة، وخاصة في الفترة الأخيرة، قد عملت بشكل واعٍ ومخطط إلى عسكرة العلاقات الدولية، حيث لم تعد هناك علاقات دولية محكومة بالعلاقات الإقتصادية أو بـأساليب الدبلوماسية، أو بأحكام القانون الدولي فحسب، فالولايات المتحدة تدفع بشكل منهجي نحو تسييد منطق سيطرة ميزان القوى في العلاقات الدولية بالإعتماد أساساً على عناصر القوة الصلبة باستخدام المال والسلاح والسيطرة على طرق المواصلات ونشر حاملات الطائرات...؛ هذا ما نلاحظه من خلال الإتفاقيات والمعاهدات التي تعقدها، أو توسع مشتملاتها مع دول شرق آسيا: كوريا الجنوبية، اليابان، الفليبين، أستراليا، الخ.. وصولاً إلى الهند، التي يجمعها مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، إتفاق «الحوار الأمني الرباعي» – كواد/ Quad وغيرها من الإتفاقات، كما ومن خلال توسيع دائرة عمل الحلف الأطلسي.

وعليه، يقوم القانون السائد عند واشنطن على أساس المزيد من العسكرة في العلاقات الدولية، والسيطرة على العقد الإستراتيجية، الأمر الذي لا يقتصر على منطقتنا، بل نراه في أكثر من مكان، من بحر جنوب الصين إلى شرق أوروبا، ناهيك عن البحر الأحمر وغيره من بقاع المسكونة.

التطور الجديد في كل هذا، والذي تجدر الإشارة إليه هو أن الولايات المتحدة لم تعد وحدها تملك القدرة على عسكرة العلاقات الدولية، لنرى مثلاً أن دولة لا تمتلك القدرة الإقتصادية وغيرها من عوامل القوة كدول أخرى، كاليمن، التي إستطاعت – بفضل الإرادة السياسية الصلبة لقيادتها وإلتفاف الشعب حولها - أن تشكل عنصراً مؤثراً في معادلة التوازن العسكري والردعي في البحر الأحمر وفي إمتداده القرن الإفريقي وصولاً إلى بحر العرب، المنطقة الحيوية بالنسبة للتجارة العالمية والإستراتيجيا بشكل عام.
لقد بات القرار اليمني الآن، يؤثر على معادلة العلاقات الدولية وتوازناتها في هذه المنطقة، مما يعني أن هذا الأمر لم يعد حكراً على واشنطن، بل بات بمقدور دول، ومكونات،.. تنتمي إلى جبهة مقاومة الهيمنة الأميركية على المستوى العالمي، أن تستخدم هذا الأسلوب باعتماد أدوات عمل، وإمكانيات، نكاد أن نقول أنها بمتناول حتى الدول ذات الإقتصاديات النامية، شرط تحليها بالإرادة السياسية ودعم الشعب

دور القوى الصديقة في دعم نضال شعبنا

ثلاث دول تستطيع أن تلعب دوراً حاسماً في الصراع بالإقليم، هي: الصين، إيران وروسيا، فهي دول «الجوار القريب»، وهي دول تملك، مجتمعة، طاقات جبارة في مختلف المجالات، وهي مهتمة، لا بل ساعية – إنطلاقاً من مصالحها - لمواجهة المخطط الأميركي في هذه المنطقة.
إقليمنا يقع في غرب آسيا، وعلى سواحل الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ويشكل مجالاً حيوياً لهذه الدول، ولها تطلعات تلتقي بجانب مؤثر فيها مع مصالح الشعب الفلسطيني، والدول التواقة إلى الحرية والإستقلال في المنطقة. هذه العلاقات تشهد تقدماً، وإن لم تصل بعد إلى المستوى المنشود.

علينا أن نلاحظ أن ثمة إهتماماً متزايداً من قبل روسيا والصين، بمجرى الصراعات الدائرة في هذه المنطقة، ومن ضمنها مجريات القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الصين كدولة مؤيدة تاريخياً للحقوق الوطنية لشعب فلسطين، إنما بأسلوب ينزع إلى الإكتفاء بإعلان الموقف؛ وبوصفها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، فهي تصوّت إلى جانب القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة وسائر المؤسسات الدولية، وهذا أمر مهم، لا يمكن الإنتقاص من أهميته، لكنه غير كافٍ لإحجامه، أو تردده عن الإقدام على خطوات عملية.
غير أن الصين بدأت مؤخراً بإرسال إشارات لا تخفى على أحد، عن توجهها للإنتقال من موقع التحفظ إلى موقع أكثر حضوراً وتأثيراً، وفي هذا السياق، إستضافت بكين بين 21 إلى 23/7/2024 جولة من الحوار الفلسطيني، خرجت بنتائج فائقة الأهمية.

كما نلاحظ – في الوقت نفسه - تزايد إهتمام موسكو بالشأن الفلسطيني، ومن مؤشراته زيارة الرئيس الفلسطيني إلى موسكو، والمباحثات مع القيادة الروسية، التي أكدت على ضرورة التنسيق الفلسطيني– الروسي – الصيني، وهو ما تدعو إليه بكين أيضاً، وذلك في مواجهة الحملة العدوانية الأميركية – الإسرائيلية المنسقة، وهذه تطورات مهمة جداً، نتطلع إلى أن تنضم إليها دول أخرى إليها في هذا الإقليم، لأن التعاون معها، وتنسيق الجهد والعمل المشترك فيما بينها يمدنا بالقوة اللازمة في مواجهة العدوان

تأثير العوامل الخارجية

حتى الآن، مازال العامل الخارجي الأكثر تأثيراً في معادلة الصراع، هو العامل الأميركي، الذي تندمج فيه عضوياً دولة الإحتلال، وهذا العامل – بدوره - تتحكم فيه «معادلة الجدوى»، التي ببلوغها عتبة التأثير السلبي الحقيقي على مصالح أميركا، سوف تجعلها تتبع سياسة أخرى. وبما أن الخسائر اللاحقة بإسرائيل وأميركا لم تصل بعد إلى مستوى التأثير غير القابل للتعويض عنه على مصالح البلدين، فلا شيء يحول دون إستمرار المعركة، و«صفقة وقف إطلاق النار» التي لم ترَ النور بعد، ستبقى بيد إسرائيل وأميركا بمثابة وسيلة لإدامة الحرب بأشكال مختلفة.

من هنا، ضرورة حث الجهد لإحداث تغيير على ميزان القوى لتعظيم الخسائر في الصف المعادي، وهو أمر ممكن، فالصمود الفلسطيني هو جزء من العمل على تغيير ميزان القوى؛ كما أن جبهة الإسناد وتصعيد فعل قواها، هو أيضاً جزء من هذه المعادلة؛ وكذا الأمر بالنسبة لجبهة التضامن مع الشعب الفلسطيني وشجب العدوان في كل مكان على الصعيدين الرسمي والشعبي وفي المؤسسات الدولية وقرارات الشرعية الدولية...
إن الوقائع تؤكد أن الأطراف التي تقف إلى جانب شعب فلسطين، تراكم المزيد من عناصر القوة، وأن الأطراف المقابلة تواجه المزيد من الصعوبات، فهي دخلت في دائرة العد العكسي، منذ أن بدأ «طوفان الأقصى»، وهذا من شأنه أن يفعل فعله في إعادة صياغة المعادلات الإقليمية لصالح الشعب الفلسطيني والقوى التي تسانده، ما يجعلنا أمام معركة يستطيع الشعب الفلسطيني أن ينتصر فيها بإدامة الصمود، فمن يستطيع أن يديم صمود، يحقق النتائج المرجوة.

مازالت عين إسرائيل شاخصة إلى توسيع الحرب لتشمل الإقليم بأسره، وبالذات إيران. نتنياهو يعتقد أن ثمة فرصة ذهبية أمامه لكي ينطلق من ميدان الحرب على أرض فلسطين، إلى ساحة الحرب الأوسع مع إيران، لأنه يعتبر أن إيران بما تملكه من عناصر قوة مرشحة للتعاظم، باتت تمثل الخطر الرئيس على أطماع إسرائيل راهناً، وفي المرحلة القادمة، لا سيما بعد أن وطَّدت طهران علاقاتها، ووثقت تحالفاتها مع قوى التحرر الوطني على إمتداد الإقليم، من بوابة المقاومة.

مع 7 أكتوبر، إنتقل الإهتمام بالقضية الفلسطينية من الهامش إلى المركز، فلا يمكن بعد الآن إعادة صياغة أوضاع المنطقة بمعزل عن الإستجابة للحقوق الوطنية لشعب فلسطين، ولحق دول المنطقة بالاستقلال، ما يجعلها دولاً متحررة من التأثير الأميركي، ولو بالمعنى النسبي للكلمة. إن الحركة الوطنية في المنطقة تقف أمام تحولات لا تقتصر على الوضع الفلسطيني وحده، وإنما تشمل مجمل أوضاع شعوب وبلدان الإقليم

إتساع التأييد الشعبي العالمي للقضية الوطنية الفلسطينية، وتزايد عزلة إسرائيل

تحولت القضية الفلسطينية إلى قضية راهنة، ملحة وضاغطة على أجندة السياسة الدولية والإقليمية، وتحت وطأة 7 أكتوبر، تقدمت هذه القضية وباتت أكثر حضوراً من أي وقت مضى، إذا دققنا بما حظيت به من دعم جماهيري وشعبي، وقرارات مؤيدة للحق الفلسطيني بتقرير المصير والدولة المستقلة وعودة اللاجئين، بما في ذلك قرارات الشرعية الدولية، ومن ضمنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة - 10 أيار/ مايو 2024، الذي نصَّ بوضوح على جاهزية فلسطين وقابليتها، بأن تصبح دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وأن تتمتع بكافة إمتيازات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، باستثناء حق التصويت.
وبالمقابل، فإن أزمة العدو تتفاقم، وتؤدي به أكثر فأكثر إلى عزلة متزايدة لدولة العدوان على الصعيد الدولي، من شأنها أن تفاقم أزمته. كل هذا يؤشر إلى مدى التقدم الذي أحرزته القضية الفلسطينية، وإن بتضحيات بالغة لا ريب، على طريق إنجاز الحقوق الوطنية لأنها تنتسب إلى قلب الصراع الذي يجري بين شعوب العالم والإمبريالية الأميركية.

إن قرارات الشرعية الدولية المستجيبة لحقوق الشعب الفلسطيني ليست هِبة، بل هي تعبير عن ميزان قوى، يعكس موقفاً إيجابياً حيال هذه الحقوق. غير أن هذا الميزان مازال يفتقد إلى النصاب الذي يسمح بتطبيق قراراته، أي ينقلها من حيِّز النص السياسي الذي يخدم العملية النضالية إلى حيِّز التنفيذ الذي يحقق أهدافها. وفي ضوء الحرب الدائرة الآن على أرض فلسطين- وإذا ما تسلح الشعب الفلسطيني ومقاومته بالنفس الطويل - سوف ينشأ ميزان القوى الكفيل بنقل قرارات الشرعية الدولية إلى دائرة الحياة. إن الشعب الفلسطيني يقترب شيئاً فشيئاً من مشارف هذه المرحلة

أهداف المشروع الصهيوني بطبعته الدينية العنصرية

منذ أن شرعت الحركة الصهيونية بصيغتها العلمانية الغالبة بوضع اللبنات الأولى لمشروعها الإستيطاني الإجلائي على أرض فلسطين، إحتكمت إلى «ثنائية الخرافة والإرهاب»؛ وبهذا المعنى، فإن الحركة الصهيونية بطبعتها الدينية المتطرفة لم تأتِ بجديد، فهي تقع في إمتداد ما سبق باستنادها إلى تراثها الفكري والسياسي، إنما بجرعة أقوى من العنصرية والدموية والتشوف العرقي، وبسمات فاشية بالغة الظهور وأكثر تأصلاً من ذي قبل، فهي لم تَعُدْ تقتصر على إنكار أي قدر من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بل باتت تقوم على نفي وجود الشعب الفلسطيني نفسه.

ضمن هذه البيئة الأيديولوجية المريضة، تتحرك الحياة السياسية حالياً في إسرائيل، وإليها إتكأت حكومة نتنياهو قبل 7/10 في التعاطي مع الشعب الفلسطيني عموماً والضفة الغربية بما فيها القدس بالتخصيص.

بعد 7/10، إزدادت ممارسات هذه الحكومة توحشاً وشراسة، وتوسعت دائرة فعلها لتشمل قطاع غزة بالإستناد إلى أجندة معلنة، وأخرى يُعمل عليها دون التصريح الكامل – بأقله رسمياً - عن مضمونها؛ الأولى حددت هدفين لهذه الحرب: القضاء على المقاومة + إستعادة الأسرى الإسرائيليين؛ الأجندة الأخرى تستهدف التطهير العرقي وتهجير الشعب الفلسطيني خارج ترابه الوطني؛ هذه الأجندة، وإن لم تكن واردة رسمياً في برنامج الحكومة، لكنها متضمنة في برامج عديد القوى المشاركة في الحكومة الإسرائيلية، وهي قيد التنفيذ بأساليب متعددة من قبلها؛
إن «خطة الحسم» التي طرحها وزير المال والاستيطان سموتريتش بشكل علني منذ العام 2017، تقوم على ثلاث ركائز: مصادرة الأرض أي الضم، ووضع الشعب الفلسطيني أمام خيار الرحيل، أو البقاء في عين المكان إذعاناً لمتطلبات الحسم، أو سجناً في حال الإعتراض، أو قتلاً عند المقاومة.

إن العديد من الأحزاب والقوى الإسرائيلية لا تخفي أهدافها التصفوية حيال الشعب الفلسطيني بالمعنى السياسي العملي للكلمة، على الأقل على أرض فلسطين، وما هو حاصل في قطاع غزة وباعتراف هيئة الأركان الإسرائيلية، أن الجيش الإسرائيلي تجاوز ما كان يسمى أهدافاً عسكرية، بعد إدعاء أنه نفذها جميعها، لينتقل إلى سياسة محورها مواصلة القتل الجماعي للشعب في قطاع غزة، وإفقاده مقومات الحياة الآدمية، غير أن صمود المجتمع أحبط هذه الخطط
 
«التطبيع» .. أعلى درجات مسار «سلام أبراهام»

وإذا عدنا إلى مرحلة ما قبل 7 أكتوبر، فإن الإستراتيجية الأميركية في ذلك الحين، كانت تتجه لإقامة نظام إقليمي تندمج فيه «إسرائيل الكبرى» إقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، من بوابة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعربية السعودية، كما كان الحديث يدور عن مثلث العلاقات الأميركية – الإسرائيلية – السعودية، وما يمكن أن يترتب عليه، فيما لو إرتقى بالمعنى الإستراتيجي للكلمة، وبالتالي لم تعد القضية الفلسطينية قضية قائمة بذاتها، بل ستتحول إلى ملحق بالمشروع الأميركي الإستراتيجي القائم على التطبيع، مما سيحول القضية الفلسطينية من كونها قضية شعب تحت الاحتلال، يناضل من أجل حقوقه الوطنية المشروعة في تقرير المصير والدولة المستقلة والعودة، إلى مجرد موضوع حقوق معيشية وإقتصادية بغرض إدامة الأود، ليس إلا.

من المسلم به أن هذه الاستراتيجية التي تستهدف المشرق العربي باعتباره القلب النابض لغرب آسيا وحوض شرق المتوسط، إنما تقتضي إستيفاء متطلباتها، إن لم يكن شروطها، وأهمها:
1 - أن تقود الولايات المتحدة هذه العملية بشكل مباشر باعتبارها ركناً ركيناً في هذا النظام، وهو الدور الذي تسعى واشنطن إلى تعزيزه أصلاً، منذ أن إتضح عدم جدوى أسلوب «القيادة من خلف» العائد إلى إدارة أوباما.
2 - أن ترتبط أهداف هذه الإستراتيجية في الإقليم عضوياً بالأهداف التي تسعى واشنطن لتحقيقها على صعيد النظام العالمي بما يستجيب لمصالحها، الأمر الذي يتمثل إلى جانب إحتواء النفوذين الإيراني والروسي في الإقليم، المضي قدماً على طريق إستكمال شبكة الأحلاف والإتفاقيات العسكرية لتضييق الخناق على الصين بشكل خاص.
3 - أن تقوم هذه الإستراتيجية على أكتاف أطراف محورية في الإقليم: إسرائيل، السعودية، والسلطة الفلسطينية باعتبارها حاملة للقضية الفلسطينية، المحورية بمدلولها وتأثيرها.

ومن هذه الزاوية فإن دمج إسرائيل في الإقليم، إذ يقع في إمتداد مسار «سلام أبراهام»، معززاً بما سبقه من معاهدات سلام مع الكيان، فإن إستراتيجية «التطبيع» تتجاوز ما سبقها لشمولية أجندتها لدول الإقليم بأسره، ما يجعلها تمثل أعلى درجات مسار «سلام أبراهام»، باقتصاره حالياً على إتفاقيات ثنائية لا ترقى إلى مستوى ما يجري التخطيط له في إطار عملية «التطبيع»، التي هي إلى المسار أقرب- Process.

«طوفان الأقصى» باعتباره المُعَبِّر عن المقاومة كما تقدم نفسها حالياً بوجهها الغالب، برنامجاً وخياراً، كبح جماح مسار «التطبيع» في الإقليم، أبطأ إندفاعته، لكنه لم يقطع الطريق عليه، فواشنطن بمعية تل أبيب واجهتا المقاومة بإعلان الحرب عليها، فتحول الميدان إلى مواجهة عسكرية بأدوات غير متناظرة، أفضت إلى وضع إسرائيل في أزمة بنيوية لم يشهدها الكيان بهذه الحدة والشمول منذ التأسيس، لا سيما في ضوء إفتقاد إسرائيل لـ «إستراتيجية خروج» لليوم التالي لوقف إطلاق النار

الإنقسام الفلسطيني من منظور علاقات القوى المستجدة

شهد الإنقسام الفلسطيني مع «طوفان الأقصى» ومن منظور علاقات القوى المستجدة، تطوراً مهماً، عكس نفسه على المشهد الفلسطيني، نلخصه كما يلي: كان الإنقسام قبل 7/10 بين سلطتين، الأولى رسمية، معترف بشرعيتها؛ والثانية هي «سلطة الأمر الواقع». بعد 7/10 نشأت ظروف موضوعية وعملية وضعت «سلطة الأمر الواقع» في موضع الشريك للموقع الرسمي، باعتبار «المقاومة» هي مرجعية القرار في السياسة والميدان معاً، ما نقل الإنقسام من حالته السابقة إلى حالة جديدة: جهة تسيطر على الميدان وعلى جانب مهم من المرجعية التمثيلية - أي السياسية – بالأمر الواقع، وجهة أخرى مازالت تحتفظ بموقعها التمثيلي، إنما بالشراكة العملية مع المقاومة، دون أن يكون لها تأثير يذكر في وقائع الميدان.

إن هذه الحالة باتت تستوجب «توحيد العنوان (التمثيل السياسي) مع الميدان (المقاومة)»، أي توحيد طرفي السلطة، الرسمي المعترف بشرعيته باعتباره مالك التمثيل، مع «سلطة الأمر الواقع» التي باتت عملياً تدير الشأن السياسي، باعتبارها صاحبة القرار في الميدان، ومشاركة بهذه الصفة في المرجعية التمثيلية، الأمر الذي يفرض – بالمنطق العملي والمصلحة الوطنية في آن – إعتماد صيغة «الوفد الفلسطيني الموحد» الذي يدير العملية السياسية بكل جوانبها.

لقد حمل «حوار بكين»- 21 إلى 23/7/2024، بالنتائج التي تمخض عنها، المخرج الوطني المناسب لعموم الحالة الفلسطينية من مأزقها، بعد أن قرر أمرين رئيسيين: إعادة تفعيل الإطار القيادي الموحد والمؤقت، الذي يوحد مركز القيادة والتوجيه للحركة الوطنية + تشكيل حكومة الوفاق الوطني لإدارة الشأن العام في الضفة والقطاع، وقطع الطريق على المشاريع البديلة.
إن الإقدام على هاتين الخطوتين يؤسس لخطوات لاحقة تسمح بتعزيز المكانة التمثيلية، وبالتالي الشرعية للهيئات القيادية لمنظمة التحرير الفلسطينية: المجلس المركزي واللجنة التنفيذية، من خلال توفير شروط تمثيل جميع القوى السياسية فيها، ما يفتح الطريق أمام التحضير لانتخابات عامة بنظام التمثيل النسبي الكامل.

إن وضع مُخرجات بكين موضع التطبيق يضع الحالة الفلسطينية على سكة التقدم الحثيث نحو إنهاء الإنقسام، ويقطع الطريق أمام من يتوهم أنه سيكون بإمكان السلطة الرسمية منفردة بتكوينها الحالي الإضطلاع بالدور المطلوب منها في القطاع، كما في الضفة والقدس سواء بسواء. إن خيار التقدم على طريق «الشراكة الوطنية» هو ممر إلزامي، لا مَحيد عنه، بغض النظر عن الحسابات التي تعلق نجاح أي عمل على موافقة جهات خارجية بعينها، لا تضع المصلحة الوطنية الفلسطينية الحقة نصب الأعين، لاعتبارات خاصة بها، تجمع ما بين المصلحة الشخصية وضعف الإدراك.

إن الوضع الراهن يضع الحركة الفلسطينية أمام تحديات كبرى بوسعها أن تقدم الإجابات الصحيحة عليها، إذا ما إستجابت لمتطلباتها، أي إذا ما حسمت بوجهة الحل مسألتي الوحدة الداخلية التي تقتضي بناءً، والمقاومة الشاملة التي تستوجب برنامجاً؛ وعلى هذين الأمرين قدم الشعب إجابته القاطعة بالتضحيات البالغة التي قدمها في الميدان، والجهود الإستثنائية التي بذلها في كل مكان. ويبقى أن تحزم القيادات المعنية أمرها بالوجهة السليمة، التي لم تعد تفتقد إلى التحديد، بل إلى الإرادة السياسية التي تضمن الإلتزام الصارم بالتطبيق

المصدر :جنوبيات