إنّها قصّة رجل عجوز تقدّم بشكوى ضدّ ابنه...
يُحكى في سالف العصر والأوان، حيث تغلغلت الأحزان في الوجدان، أنّ رجلًا عجوزًا دخل مجلس القاضي ومستشاريه ليقدّم شكواه.
فقال القاضي: شكواك ضدّ من؟
قال العجوز: ضدّ ابني فلذة كبدي! فنظر القاضي إلى من معه من القضاة مستغربًا كلام العجوز، وسأله: وما هي شكواك بالضبط؟
أجاب العجوز: إنّي أطلب من ولدي مصروفًا شهريًّا حسب استطاعته.
فردّ القاضي: وهذا من حقّك على ابنك من دون نقاش أو جدال.
فقال الأب العجوز: يا حضرة القاضي، رغم أنّي غنيّ وغير محتاج إلى المال إطلاقًا إلّا أنّي أريد أن آخذ مصروفًا شهريًّا من ابني.
فاستغرب القاضي كثيرًا وتعاطف مع الموقف، وأخذ بيانات الابن واسمه وعنوان سكنه، وأمرَ بإحضاره على الفور.
هذا واجتمع الابن بأبيه أمام هيئة المحكمة. عندها توجّه القاضي للابن سائلاً: هل هذا أبوك؟ أجاب الابن قائلًا:
نعم سيّدي القاضي، إنّه والدي.
فقال له القاضي: هل تعلم أنّ أباك تقدّم بشكوى ضدّك يطالبك بمرتّب شهريّ، وبمبلغ زهيد حسب قدرتك...
فردّ الابن مستغربًا: كيف يطلب منّي مصروفًا وهو يملك الكثير ولا يحتاج إلى النقود من أحد.
فقال القاضي: هذا طلب أبيك وهو حرّ فيما يطلب.
عندها قال الأب العجوز: يا حضرة القاضي، لو حكمتم لي بدينارٍ واحدٍ كلّ شهر سأكون سعيدًا، شرط أن أقبضه من يده من دون تأخير.
فقال القاضي: نعم سيكون لك ذلك بكلّ تأكيد.
فدعا الأب للقاضي بالصحّة والتوفيق.
وعليه، أصدر القاضي حكمه على الابن قائلًا:
حكمت المحكمة على فلان بإعطاء أبيه مصروفًا شهريًّا وقدره دينار واحد فقط حسب رغبة الأب من دون انقطاع، وأن يكون هذا المصروف مدى الحياة، وعلى أن يُسلّم المبلغ من يد الابن ليد الأب مباشرة، من دون وجود أي وسيط بينهما.
وقبل أن يترك الأب والابن مجلس القاضي ومستشاريه، قال القاضي للأب أمام ابنه: اسمح لي أن أسألك لماذا فعلت ذلك وشكوت ابنك وطلبتَ مبلغًا زهيدًا جدًّا رغم أنّك غنيّ ولست بحاجة إلى المال؟
ردّ العجوز وهو يبكي بمرارة:
يا سيّدي القاضي، إنّي أشتاق لرؤية ابني هذا وقد أخذته مشاغله الكثيرة منّي ولا أراه أبدًا رغم أنّ قلبي متعلّق به تعلّقًا شديدًا... فهو لا يكلّمني ولا يسأل عن أحوالي...
ولأجل أن أراه، تقدّمت بهذه الشكوى مكتفيًا بلقاءٍ واحدٍ كلّ شهر.
فانهار القاضي ومن معه بالبكاء بحرقة. وقال للأب: والله لو تكلّمت بالسبب الحقيقيّ منذ البداية لأمرتُ بحبسه وجَلدِهِ أيضًا...
فقال الأب العجوز وهو يبتسم: يا حضرة القاضي، وهذا الحكم سيؤلم قلبي أيضًا…
ليت الأبناء يُدركون حجم معزّتهم في قلوب آبائهم قبل فوات الأوان...
القاضي م جمال الحلو