من أيّام الزّمن الجميل روى لي جدّي لوالدي(طيّب الله ثراه) هذه الاقصوصة الممتعة:
غالبيّة النّاس في بلاد الشّام يستعملون عبارة (عايف التّنكة) للدّلالة على الوصول إلى حالة اليأس والإحباط والشّعور باللامبالاة.
فماذا تعني هذه العبارة؟
إنّ كلمة عايف مصدرها الفعل (عاف)، وعاف الشّيء معناه تركه وأهمله.
أمّا كلمة التنكة:
ففي اللغة هي اسم لصفيحة رقيقة من معدن وتُطلى بالقصدير، وتُتّخذ منها أوعية السوائل أو غيرها.
أمّا في موقع المثل فهي عبارة عن قطعة معدنيّة كانت تُعطى لمن أنهى خدمته الإلزاميّة في الجيش العثمانيّ، ذلك لتكون بمثابة وثيقة إثبات يُبرزها الفرد في حال تمّ توقيفه من قبل دوريّة من الجيش المذكور يثبت من خلالها أنّه قد أنهى خدمته الإجباريّة.
وعليه، فإنّه يُخلّى سبيله. وإلّا إذا لم تكن "التنكة" بحوزته، عندها سيعاد سوقه مجدّدًا إلى "سفر برلك"وهي بالتّركية (Seferberlik) وتعني حالة النّفير العامّ والاستعداد والتأهّب للحرب (التعبئة العامّة) في الحرب العالميّة الأولى.
وبالنظر للأهمّيّة القصوى لهذه القطعة المعدنيّة، فغالبًا ما كان بعض الشبّان يثقبون هذه القطعة ويمرّرون فيها خيطًا ويعلّقونها في رقبتهم لتبقى متلازمة لهم أينما ذهبوا.
ومن هذا المنطلق فإنّ الإشارة إلى عوف هذه "التنكة" أو تركها أو خلعها لها دلالتها الواضحة على اليأس والوصول إلى الوضع المزري. ومن هنا يُستشفّ الرابط بين المعنيين، إذ لا شيء يدعو المرء إلى أن يلقي "بالتنكة" مع أنّها الوثيقة الوحيدة التي تنجيه من العودة إلى الحرب الضروس التي "لا تبقي ولا تذر" إلّا إذا كان اليأس أخذ منه مأخذًا حتّى الخطر الدّاهم وعدم الاكتراث لأي شيء يصيبه ولو كان "الموت بالمرصاد" من جرّاء الالتحاق مجدّدًا بالجيش العثمانيّ، أي (عايف التنكة).
هذه هي قصّة "عايف التنكة" في زمن الحكم العثمانيّ.
أمّا في زماننا هذا وفي وطن القهر والخذلان والنّفاق والحرمان (لبنان) فإنّ الشّعب اللبنانيّ المسكين "عايف التنكة"، و"عايف التكنة"، و"عايف حالو"، و"عايف الحياة إلى حدّ الممات".
"فيا ربّ ارحم وأنت الأكرم".
القاضي م جمال الحلو