الجمعة 8 تشرين الثاني 2024 14:59 م

بالنظام - الشِرك بالدولة (3)


* جنوبيات

 

حجر أساس إعادة البناء هي أن السلطة التي تحكم الجماعة هي وحدانية بطبيعتها.

غريب أمر هذه الدولة التي أقيمت في لبنان في العام 1920 بموجب إعلان تلاه ضابط فرنسي، وأصبح لها دستور العام 1926 أُقرّ على عجل بضغط من مفوّض سامٍ أرسلته الدولة المنتدبَة بمهمة وحيدة هي الانتهاء من إقرار الدستور والعودة خلال ستة أشهر، والتي حصلت على الاستقلال العام 1943 بعد أحداث لم ترقَ إلى مستوى كلمة "معركة" كما تتم تسميتها في كتاب التاريخ المدرسي ولم تُقنع فصولها الكثيرين وبقيت مفتقرة إلى التشويق والأعمال البطولية الجديرة بالنتيجة التي حصلت عليها أو بالتعظيم الذي حظي به أبطال الاستقلال. غريب أمرها لأنها على رغم كل هذه الهشاشة الظاهرة وما تلاها من أحداث على مدى العقود، لا تزال راسخة لا يمكن استبدالها أو إلغاؤها عبر تجزءتها أو ضمّها.

غريب أمر هذه الدولة عندنا فهي رغم كل الهشاشة التي تبدو عليها والاستقواء الذي مورس بحقها من المتضررين من وجودها الذين توالوا على تحطيمها وإضعافها منذ بدء تفكك أوصالها أواخر ستينات القرن الماضي وعلى مدى سنوات الحرب، والخائفين من قيامها الفعلي في فترة ما بعد الحرب أو فترة الحرب الأهلية الباردة، هي ما تزال راسخة لا يمكن التفكير بأي بديل عنها. وهي تتمتع بصفة تكفي بذاتها للتمسك بالأمل بنهوضها وهي أنها تخيف كل من يتعارض وجوده ومنطقه وهدفه مع حقيقتها.

هذه الحقيقة، أي الخوف من قيام الدولة، يشعر به الخارجون على القانون ويعلمه مثلاً مهرّب الممنوعات أو سائق الآلية المخالفة الذي يخاف أن يمرّ بحاجز تفتيش وإذا فوجئ به اضطرب وخاف وحاول الهروب من طرق فرعية أو بعكس السير حتى أنه قد يحاول إطلاق النار على الحاجز. هذا الخوف نفسه تتشارك فيه القوى التي ساهمت في هدم مؤسسات الدولة أوالحلول محلّها أو وضع اليد عليها من داخلها أحياناً ومن خارجها أحياناً أخرى، أو أنشأت لنفسها في زمن السلم تنظيمات ومؤسسات بديلة أو مناقضة لمؤسسات الدولة أو احتفظت بها، أو سيطرت على مواقع الدولة الدستورية ومواردها وتقاسمتها مع غيرها لتكون هذه المؤسسات والموارد لها في خدمة تقوية كياناتها الطائفية وإضعاف الدولة.

حقيقة أنّ الدولة الضعيفة جداً تخيف الخارجين على منطقها، هي بالفعل مسألة تستحق التأمل والتفكير ومن ثم الانتقال إلى بناء منظومة متكاملة للمستقبل تقوم على هذه الحقيقة البسيطة والهائلة في الوقت نفسه.

حجر أساس إعادة البناء هي أن السلطة التي تحكم الجماعة هي وحدانية بطبيعتها. والدولة بمفهومَيْها القديم والحديث لم تكن ولا يمكن أن تكون إلا كذلك. ما سوى ذلك يعني التفكك والانقسام، ويعني تحوّل الجماعة إلى جماعات والدولة إلى دول. وهذه نتيجة حتمية. فالسلطة يمكن أن تتوزّع وفق مبدأ فصل السلطات على جهات ثلاث للحؤول دون حصول التفرّد والاستبداد ولكي يتحقق التوازن والتعاون بينها، وفق مقولة مونتيسكيو، ولكنها تبقى منتمية إلى دولة واحدة أو إلى ملك واحد، فإن ما يتعارض مع وحدانية السلطة ووحدة الدولة هو شِرك بها.

في روايتها "إليسّا ملكة صور وقرطاج" (دار النهار) تقول لميس شقير أن أليسّا (أو علّيسا باللفظ الكنعاني السامّي) ابنة ملك صور ورِثت العرش مع شقيقها "بغماليون"، وقد أوصى والدها بتوريث العرش لكليهما معاً لاعتقاده بأن صفات الاثنين وأطباعهما تُكمل بعضها بعضاً. لكن النتيجة كانت معاكسة وحصل انقسام بالولاءات ومن ثم بدأت الصدامات، فكان تدبيرٌ يقضي بأن تُهاجر أليسّا ويرحل معها من يشاء من مؤيديها وهذا ما حصل وأسّست مدينة قرطاج العظيمة، وعاشت صور سليمة.

المصدر :النهار