الثلاثاء 19 تشرين الثاني 2024 22:40 م |
ودائع الحرب... ضحايا جنوب لبنان رهن المقابر الموقتة |
* جنوبيات ظل أبناء المناطق الحدودية في جنوب لبنان التي تشتعل فيها المعارك بين مقاتلي "حزب الله" والجيش الإسرائيلي منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي وحتى الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو تاريخ اتساع الحرب لتشمل مختلف المناطق اللبنانية، يدفنون موتاهم في مقابر بلداتهم ولكن بتدخل من الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل" لتسهيل عملية الدفن هذه بعيداً من نيران المواقع الإسرائيلية القريبة من الحدود أو استهداف الطائرات الحربية والمسيرة. مع توسع دائرة الحرب وتفاقمها، وفي ظل النزوح الواسع لنحو مليون و200 ألف لبناني من مناطق الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية والبقاع بات دفن ضحايا الغارات والقصف أو الموتى بظروف طبيعية أو بسبب المرض في قراهم أمراً مستحيلاً، لا سيما تلك الجنوبية المتاخمة للحدود بسبب التحذيرات الإسرائيلية المتكررة للنازحين من العودة. ممنوع التوجه جنوباً هذه التحذيرات تكررت على لسان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي حذر الجنوبيين مرة قائلاً "نناشد سكان منطقة جنوب لبنان الامتناع عن الانتقال جنوباً والعودة إلى منازلكم أو إلى حقول الزيتون الخاصة بكم في المناطق التي قمتم بإخلائها لأنها مناطق قتال خطرة". ومرة أخرى بالقول "من أجل سلامتكم الشخصية نطالبكم بعدم التحرك بالمركبات من منطقة الشمال إلى منطقة جنوب نهر الليطاني"، مضيفاً "هذا الإنذار ساري المفعول حتى إشعار آخر". وثالثة أكد فيها أنه "يحظر عليكم التوجه جنوباً. أي تحرك نحو الجنوب قد يشكل خطراً على حياتكم. سنقوم بإبلاغكم عن التوقيت المناسب للعودة إلى منازلكم حال توافر الظروف الملائمة لذلك". من هنا لجأ معظمهم إلى وسيلة "دفن الوديعة"، وهو أمر متبع في حال الضرورة أو الوصية، والضرورة مثل الحرب وعدم التمكن من الوصول إلى مدافن العائلة والأقارب حيث يجري دفن الجثة موقتاً في مكان متاح ريثما تتوافر فرص نقلها إلى حيث ترغب عائلة المتوفى، أو أن يكون المتوفى قد أوصى بدفن جثته في مكان ما وحالت الظروف دون ذلك، فيدفن وديعة إلى أجل آخر فتسترد جثته ويدفن حيث أوصى. ودائع بشرية تنتظر بسبب الحرب وعدم إمكانية وصول ألوف من أبناء وسكان البلدات جنوب نهر الليطاني أقيمت في عاصمتي الجنوب النبطية وصور مقبرتان موقتتان لدفن الوديعة، اختيرت مقبرة النبطية في محلة تول التي تبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن المدينة، أما مقبرة صور ففي إحدى الساحات القريبة من "دوّار العلم" وسط المدينة. يدفن الموتى وضحايا المعارك من أبناء المدينتين وسكانهما طبيعياً في المقابر المعروفة، لكن الوفيات من خارج المدينتين يتم دفنها في مقابر الوديعة بسبب الأخطار الأمنية التي ترافق عملية الدفن في قرى مسقط الرأس أو السكن، أو تنفيذاً لرغبة أسر الموتى في دفن جثامين أقربائهم في بلداتهم عندما تتوقف الحرب ويصبح بالإمكان نقل الرفات إلى الأماكن المقررة. يشرح المنسق الإعلامي في "وحدة إدارة الكوارث" باتحاد بلديات صور بلال قشمر، أن اختيار ساحة على قطعة أرض تابعة لوزارة الدفاع اللبنانية لجعلها مقبرة وديعة "تمت بالتعاون بين الاتحاد وطبابة قضاء صور بالتنسيق مع الجيش اللبناني، وكذلك مع كشافة الرسالة الإسلامية والهيئة الصحية الإسلامية ووزارة الصحة اللبنانية، كونها الجهات التي تتولى نقل الضحايا والقتلى إلى مستشفيات صور. مضيفاً "يسعى الجميع إلى تأمين معلومات دقيقة من خلال ترقيم النعوش ووضع علامات فارقة وإشارات خصوصاً للجثث المجهولة التي وصلت أشلاء، كما وضعنا ملاحظات حول الأمكنة التي نقلت منها وتاريخ الوفاة أو الغارة والوقت وبعض العلامات الأخرى". ضحايا مجهولون يشير قشمر إلى أن "بعض الفوضى والإرباك حصلا يومي الـ23 والـ24 من سبتمبر (أيلول) الماضي مع بداية الحرب المعلنة والغارات العنيفة التي كانت تتنقل من قرية إلى أخرى، وكانت فرق الإسعاف تنقل القتلى من مختلف الأمكنة لتتركها في المستشفى وتغادر، وكان عديد منها من دون أوراق ثبوتية أو علامات فارقة وبخاصة الأشلاء، ففي جبال البطم (قضاء صور) أدت الغارة إلى سقوط عائلة بأكملها كانوا في البيت بثيابهم العادية ولا يحملون هويات أو بطاقات تدل عليهم، وكان عدد الشهداء أكثر من 15، منهم ولدان لم تعرف جثتاهما وربما دفنا بالخطأ مع جثث أخرى". ويوضح أن من بين الضحايا عاملتين إثيوبيتين دفنتا وديعتين في المقبرة بعد أن أحضرتا من دون أوراق ثبوتية، لكن تم التأكد من البيت الذي قتلتا فيه نتيجة غارة إسرائيلية على منزل المقدم المتقاعد في الجيش اللبناني أحمد غريب بمنطقة الحوش قرب مدينة صور، والذي قضى مع كل أفراد عائلته المكونة من زوجته حنان صبرا وبناته رشا ومايا ونور. وجرى إعلام السفارة الإثيوبية في بيروت التي طلبت التمهل حتى تتوقف الحرب لنقل جثمانيهما وإجراء فحص الحمض النووي للتأكد من هويتيهما ونقلهما إلى بلادهما". في النبطية وصور بلغ عدد الجثث المدفونة في مقبرة الودائع بصور 156 جثة "بينهم تسع عبارة عن أشلاء مجهولة الهوية بمعالم مبهمة وغير واضحة، لكننا وثقناها بما تيسر من معلومات حول مكان الوفاة والتاريخ والوقت" بحسب قشمر، الذي لفت إلى أن خمس ضحايا من عناصر الدفاع المدني الذين سقطوا في الغارة على مركزهم في دردغيا (صور) قرب كنيستها في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إضافة إلى مواطنين كانوا في الكنيسة وجرى وضع جثامينهم كودائع بعد الصلاة عليهم، ومنهم العنصر جوزيف بدوي دردغيا الذي صلي عليه في كنيسة صور مع رفاقه". يذكر أنه في حرب يوليو (تموز) 2006 أقيمت في مدينة صور مقبرة للودائع، ووريت فيها جثامين 138 من ضحايا الحرب، وبعد توقفها استخرجت الجثامين من المقبرة لتوارى في الثرى بمساقط رؤوسهم في نحو 40 قرية جنوبية. ويقول الناشط في جمعية دفن الموتى بالنبطية حسن نزار جابر إن "ضحايا الغارات من خارج أهل المحافظة وسكانها يجري دفنهم كودائع في أرض خصصت لذلك منذ اندلاع الحرب الأخيرة في منطقة تول، إذ إن جبانة النبطية لا يجوز أن يدفن فيها موتى من خارج المدينة كونها تخضع للحكم الشرعي بعدم مواراة الودائع بموجب وصية من صاحب الأرض الراحل توفيق نصار التي منحها كمقبرة لأهل المدينة والمقيمين فيها فقط". ويؤكد جابر أن جثامين الودائع تدفن في نعوش خشبية نستقدمها من بيروت، وسط ترتيبات معينة تستوجب أن نكتب عليها بحبر مخصص اسم المتوفى إذا كان معروفاً، أو أية علامات فارقة، أو تاريخ الوفاة ومكانها، أو إجراء فحص الحمض النووي DNA للجثث الأشلاء إذا كان ذلك ممكناً. وقد تم دفن نحو 60 جثة في هذه المقبرة حتى الآن". ويتحدث عن "دفن موتى ودائع في جبانة النبطية القديمة، نظراً إلى عدم وجود شروط مانعة لذلك، منها جثة كانت في براد المستشفى الحكومي في النبطية، وجرى دفنها وديعة إلى حين البت بأمرها". ممنوعة على موتاها أكثر من 71 ضحية كانت حصيلة الغارة التي حصلت مساء الأحد الـ29 من سبتمبر (أيلول) الماضي على مبنى في قرية عين الدلب شرق مدينة صيدا الساحلية، واستمرت أعمال الإغاثة وانتشال الجثث نحو ثلاثة أيام. وكان من بين الضحايا عدد كبير من النازحين من مناطق مختلفة جنوب لبنان. أما الفاجعة الكبرى فقد عاشتها بلدة عيترون الحدودية في قضاء بنت جبيل، إذ قضى تسعة من آل فارس في المبنى الذي نزحوا إليه بمنطقة عين الدلب، حيث نزلوا في ضيافة أصدقاء لهم في الطبقة السفلية من المبنى. أمّهات وأجداد وآباء وأحفاد هوت فوقهم الطبقات الست. وجرى دفن ضحايا عيترون في صناديق خشبية كوديعة موقتة في بلدة الوردانية بإقليم الخروب قضاء الشوف بسبب تعذر نقل جثامينهم إلى بلدتهم عيترون التي دمّر الإسرائيليون معظم بيوتها وحارات منها بشكل كلي، على أن يتم نقل هذه النعوش إلى مقبرة البلدة بعد توقف الحرب. يقول المفتي علي مكي إن "المرجع الشيعي السيد أبو القاسم الخوئي (1899- 1992) كان يرى أن هذا دفن الوديعة غير محرم ولا مشكلة شرعية فيه، لكن المرجع الشيعي الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني وغيره لديهم إشكالية في هذا الموضوع، فمن يدفن في مكان ما يبقى في هذا المكان إن لم يترك وصية بأن يدفن كإيداع في مكان محدد وتعذر ذلك". ويبرر مكي الأمر بأن "نقل الرفات بعد تحلل الجثة غير مستحب، خصوصاً إذا كانت بعد أشهر قليلة من الدفن لما يمكن أن ينبعث من روائح. وذلك في حال الوصية، ومن دونها فإن السيستاني والسيد علي الخامنئي لا يحبذان نبش القبور إلا بشرط الوصية، لذلك ثمة مشكلة شرعية. أما من دفنوا في أوقات سابقة من مقاتلين فلسطينيين وغيرهم في مواجهة القوات الإسرائيلية فكان يسمح بنقل رفاتهم، وكان المرجع في حينه السيد الخوئي يسمح بذلك على عكس المرجعين الدينيين الحاليين السيستاني والخامنئي". ويلفت إمام مسجد القدس في صيدا ماهر حمود إلى أن "دفن الوديعة ليس وارداً عند السنة، لكن ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن صحابة كراماً كانوا مدفونين في أرض العدو وبعد أشهر جرى نبش القبور واستعادة جثثهم أو رفاتهم. إن كلمة وديعة لم أسمع بها إلا في الفقه الشيعي. ومن حيث العمل فعلها المسلمون الأوائل عندما كان يتوافر حكم الضرورة، وإذا لم يكن من بد أو من خيار آخر فالضرورات تبيح المحظورات، ولو افترضنا أنه لا يجوز فماذا نفعل؟". ويذكر حمود نقلاً عن البخاري والنسائي عن جابر بن عبدالله قال، "دفن مع أبي رجل في القبر، ولم يطب قلبي حتى أخرجته ودفنته على حدة". ودائع إلى حين في عمليات مواجهة مقاتلي "حزب الله" وعديد من الأحزاب اللبنانية ومنها "حركة أمل" والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وغيرها مع الإسرائيليين منذ عام 1978 وحتى تاريخ التحرير عام 2000، سقط عديد من اللبنانيين والفلسطينيين المقاتلين قتلى، منهم من أسرت إسرائيل جثامينهم ونقلتهم إلى الداخل ودفنتهم في مقابر جماعية عرفت بمقابر الأرقام، ثم أفرجت عن بعضهم في عمليات التبادل التي أجريت خلال مراحل عدة كانت أكبرها عملية التبادل التي تمت بين "حزب الله" والإسرائيليين عام 2004 برعاية ألمانية. وكانت جثث بعض المقاتلين تدفن في مقابر موقتة كودائع إلى حين تبدل الأوضاع واستعادتها ودفنها حيث يجب. ففي يونيو (حزيران) 2000 كشف النقاب عن رفات أكثر من 20 مقاتلاً من أحزاب لبنانية مختلفة، منهم 17 من منظمة العمل الشيوعي كانوا قد سقطوا خلال المواجهات التي جرت بينهم وبين الإسرائيليين في تلال شلعبون ومسعود قرب مدينة بنت جبيل في مارس (آذار) 1978. بعد 22 عاماً من بقاء جثثهم في حفرة قرب تلة شلعبون حيث كان موقعهم الذي قاتلوا منه، جرى نقل الرفات إلى بلداتهم في حلبا (عكار) ورامية (صور) وعرسال وكامد اللوز (البقاع) وحربتا (بعلبك) وطرابلس وبيروت وصيدا والنبطية وميس الجبل (مرجعيون) والمنية (طرابلس) وجويا (صور) والبابلية (الزهراني). وفي عام 2000 شيع الحزب الشيوعي اللبناني رفات أحد قيادييه (جورج نصرالله) كان سقط في مواجهة مع الإسرائيليين في الـ16 من يونيو 1988، واستعيدت جثته في عملية تبادل وجرى دفنها سنوات طوال كوديعة في دير الغزال بقضاء زحلة لتوارى في بلدته إبل السقي قرب مرجعيون بعد 12 عاماً. جثث في الأسر يفرق الأمين العام للحزب حنا غريب بين "جثة مقاتل تدفن كوديعة في مكان ما لضرورات أمنية أو لدى بيئة صديقة، وبين جثامين يأسرها العدو الإسرائيلي وينقلها إلى الداخل المحتل ولا يفرج عنها إلا وفق مفاوضات ما، فهم ليسوا ودائع بل أسرى من الموتى. ثمة ثلة من رفاقنا سقطوا في غارة على مبنى في دوحة عرمون قرب بيروت في الـ 13 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، دفناهم في مدينة صور كوديعة إلى حين توقف القتال ونقلهم إلى بلدتهم فرون في قضاء بنت جبيل، لأن صور منطقة صديقة يمكن الوصول إليها، والضحايا في منطقتهم وبلدهم ووطنهم ولم يأسرهم العدو". ويضيف غريب "حزبنا له جثامين لم تزل في قبضة العدو الإسرائيلي ولم يستردها، عددها تسعة، وبقينا باستمرار نطالب بها في مختلف المحطات والمفاوضات مع العدو لتبادل الأسرى، وكان موضوع الجثامين مطروحاً سواء بتلك المفاوضات التي تولاها حزب الله وجرى إحضار دفعة كبيرة من الجثامين والأسرى لنا ولغيرنا بمقتضاها، أو أخيراً في مرحلة "طوفان الأقصى" وأجواء الكلام عن تبادل الأسرى، إذ عادت القضية إلى الطرح، وقدمنا الأسماء التي لنا إلى (حماس) والمعلومات حول أماكن سقوطهم وما نملك من دلائل، نحن لم نتوقف يوماً عن المطالبة بأسرانا الأحياء والأموات". يقول عبد الحسن سلامة من كفر رمان جارة النبطية "انتظر أبي وأمي وأخوتي 12 عاماً لاستعادة جثمان أخي فؤاد الذي سقط مع رفاق له قرب كونين في قضاء بنت جبيل، ولم يفرج عنه إلا في عملية التبادل عام 2004، فتسلمنا جثته إضافة إلى ثلاث جثث أخرى من كفر رمان ودفناها في مقبرة البلدة، هذا الأمر وعلى رغم خسارة عائلتنا لأخي هون علينا كثيراً من أن تبقى جثته أسيرة لدى العدو الإسرائيلي". يرى المحلل السياسي سعدالله مزرعاني من بلدة حولا الحدودية في قضاء مرجعيون أنه "بات من المستحيل أن ندفن أمواتنا ومن يسقط جراء الغارات أو المواجهات في جبانة حولا، مثلما كنا نفعل على مدى 11 شهراً منذ بدء الحرب على الحدود في الثامن من أكتوبر 2023 وكانت حولا جزءاً منها، وحتى بدء المعارك العنيفة في الـ23 من أكتوبر الماضي. كنا نقدر على ذلك برعاية الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل حتى لو كان التشييع لمقاتل سقط خلال المعارك. لقد عانت بلدتنا الأمرين في هذا الأمر، إذ ظلت تتعرض للعدوان والمجازر منذ 1948، ثم للاحتلال المباشر في 1978 و1982 وحتى عام 2000، واضطر معظم أبناء البلدة إلى النزوح عنها لسنوات طوال". ويضيف مزرعاني "في فترة النزوح مات كثيرون من أبناء حولا في أماكن نزوحهم أو سقطوا في مواجهات مع العدو خارج المنطقة، وكنا نضطر إلى دفن موتانا ودائع في أماكن إقامتهم على أن نعيدهم إلى مقبرة البلدة بعد أن تسمح الظروف، لكن من دفناه خارج حولا بقي خارجها، خصوصاً أولئك الذين دفناهم في قرى صديقة، وتزور عائلاتهم قبورهم في مناسبات الأعياد أو ذكرى الوفاة". المصدر :اندبندت عربية |