الخميس 21 تشرين الثاني 2024 11:17 ص |
بُيوتُنا وقصّة موتها.. المُعلَن! |
* وفاء أبو شقرا في العاشرة والنصف صباحاً، رنّ هاتفي. عندما لمحتُ الرقم على الشاشة، سرى الرعب في أوصالي. ماذا تريد تمارا في هذه الساعة، والمفترض أن تكون أثناءها في الصفّ؟! "ماما إنْتُو بالبيت؟". سألتني مُستفهمةً لتعود وتسأل، عمّا إذا كنّا نستطيع استقبال أهل رفيقها فادي القابعين داخل سيّارتهم في الشارع. كانوا ينتظرون أن تنتهي الإغارة على المبنى قبالتهم، والذي كانت قد حدّدته خرائط التهديد الإسرائيليّة كأحد الأهداف المُقرَّر تدميرها في منطقة الغبيري. أنهت تمارا اتصالها، وبدأتُ أنا ببكاءٍ مُرّ. يا إلهي! أيُّ حياةٍ غرقنا في هَوْلها نحن اللبنانيّين؟ وما هذا “الصنف الجديد” من العذاب والإذلال الذي تختبرنا به يا أيّها الربّ؟ أيُعقَل أن تُمسي تهديدات العدوّ البوصلة التي توجّه أنظارنا وقلوبنا إلى الأبنية التي ارتأى أن يقتلها سحقاً بصواريخه؟ وأن يلعب بمصائرها، تماماً مثلما يختار اللاعبون رهاناتهم في عجلة “الروليت”؟ يعتصرني الهمّ وأنا أتخيّل عدوّنا وهو ينتقي، عشوائيّاً، فريسته. طَلْقَ المُحَيّا يبتسم بصلافة لهياكل الأبنية المرصودة للقتل. بلى. البيوت، أيضاً، تُقتَل. حتّى ولو خلت من سكّانها. فـ”بدقيقةٍ واحدة، تنتهي حياةُ بيتٍ كاملة”، يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. للبيت روح، فمَن ينعى بيوت اللبنانيّين؟ ومَن يكنسُ ركامها من قلوب أصحابها؟ ومَن يُطبطب على مَن نجا بجسده لكنّه فقدَ بيته؟ يراه المُشاهد من بعيدٍ جماداً غير آبهٍ بثمن البيت الحقيقي، ألا وهو الذكريات. يا لشقائنا. صارت بيوتنا أرقاماً ورُقعاً على “الروليت” يتسلّون بها. ويراهنون عليها. ويدنّسون حُرْمتها. تلك البيوت التي ربّيناها وحمَيْناها بريف العين. وأودعناها كلّ ما لدينا. حيواتنا وأعمارنا وأسرارنا وأوجاعنا وأفراحنا وقلقنا وذكرياتنا. فالكثير من تلك الذكريات، يا أصدقاء، محفوظة بفضل البيوت. لذلك، يولي المحلّلون النفسيّون عناية فائقة (أثناء جلسات العلاج) للتمركز المكاني البسيط للذكريات. لمواقع الإلفة في حياة البشر. وهل من شيءٍ أليف أكثر من بيت الإنسان؟ من خلف الموت والدمار اللذيْن يلاحقاننا، أفكّر ببيتنا القابع وحيداً في ذاك الشارع. بانتظارنا أو بانتظار موته. فأشعر بالبرد. وبالوحشة التي يشعر بها. وأُحسّ بالذنب لأنّني تركتُه لمصيره، في أصعب الأوقات. واستبدلتُه بمسكنٍ آخر طلباً للأمان. لكنّني أواسي نفسي بتبريرٍ ساذج. بأنّ حقيبتي لم تكن تتّسع له. ولو اتّسعت، لكنتُ حملتُه معي وأنقذته من مخالب الوحش لم يُدمَّر بيتي بعد. لكنّني أتوقّع قتله بين لحظةٍ وأخرى. فمَن يضمن ألاّ ترسو عجلة “الروليت” عليه؟ لقد غادرناه على عجلٍ في 27 أيلول/سبتمبر الماضي. أي، ليلة دكّت فيها طائرات الـ “أف-15″ حارة حريك، وخلال دقائق معدودات، بـ 84 طناً من قنابل الـ”هايفي هايد مارك” أمريكيّة الصنع. أفكّر ببيتنا ليلَ نهار. ويتكثّف التفكير فيه، مع مشاهدتي لبيوت أصدقائي وأحبابي وزملائي وهي تخرّ صريعةً. في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت. يا الللللللللللله! ما هذه المناظر الرهيبة! وكأنّنا في فيلمٍ هوليودي! حيواتٌ وأعمارٌ وذكرياتٌ وأشياءُ حميمة للسكّان تتشظّى على الملأ. تنفلش تفاصيلُ أيّامهم أمام كلّ البشر. تقترب عدسات الكاميرات فنرى أشلاء بيوتهم. وما كانت تحتضنه وتكتنزه في طيّاتها ودواخلها. برواز صورةٍ هنا. وسيّارة طفلٍ هناك. بقايا قميصٍ ممزّق على قطعةٍ من الحائط. ركوة قهوةٍ متّسخة لم يسمح الوقت بغسلها مع فناجين “الصبحيّة”. حُطام كنبة ممزوج بسوائل انبعثت من البرّادات! آآآآآآخ. وكأنّ شاغلي هذا المبنى المتهاوي كانوا يعيشون خلف جدرانٍ من زجاج. جدران تسمح لمَن هو في الخارج برؤية كلّ ما في الداخل واختراق حُرمة البيت، بحسب توصيف الأديب الروسي زامياتن للمجتمعات التي تعيش تحت سطوة سلطةٍ فاشيّة (في روايته “نحن”). أخبِّئ وجهي بكفّيْ، وأردّد في سرّي بجزع: كثيرٌ ما يحصل لنا، في عمرٍ واحد… كثيرٌ يا الله. هل سأعيش غداً ما يعيشه الآخرون اليوم؟ يُطمئنني صديقي بأنّه إذا تدمّر بيتنا، فسيُعاد بناؤه، من دون أدنى شكّ. فكثيرة هي الجهات التي ستسارع لإعمار ما تهدّم في هذه الحرب. ولكنّ البيوت ليست حجارةً، فحسب، أؤكّد له. ولا يكفي أن نعتبرها “شيئاً”. إذْ لا تقتصر مسألة البيت على إعطاء وصفٍ له. أو ذكر أجزائه وتبيان وظيفة كلّ جزءٍ منه وما يمنحه لنا من “خدمات”. فالبيت هو ركننا في هذا العالم. نأتي إليه مُصطحبين ماضينا. ونُرسي فيه جذورنا يوماً بعد يوم. ونُجادل به الحياة. فالبيت، كما يقول غاستون باشلار أحد أعظم الفلاسفة الفرنسيّين، “مثله مثل الماء والنار. فيه يحصل الدمج بين القديم جدّاً وبين المُستعاد من الذكريات. هو المكان الذي ينفتح على تاريخٍ سحيق يرتبط فيه الخيال بالذاكرة. فيشكّلان منطقة مشتركة للذاكرة والصورة”. لقد أدمنتُ، منذ شهريْن وأكثر، أحلام اليقظة. أ أحلام (كوابيس؟) تأخذني بخيالي إلى هناك. إلى البيت. بيتنا. وأشرع بالتفكير: يا ترى، إذا تهدّم بيتنا وأعادوا تعميره، فهل سيُعيدون إليه ذكرياته؟ هل سيعرفون أين يعمّرون، مثلاً، البقعة التي حَبَت فيها تمارا لأوّل مرّة؟ والغرفة التي شهدت أولى خطواتها؟ وهل سيُهندسون، وبالشكل ذاته، الزاوية التي كانت تختبئ فيها وهي تلعب “الغمّيضة” مع أبيها؟ ويُشيِّدون الحائط، عينه، حيث “شخبطت” خطوطاً ودوائر، ونالت عقاباً على ذلك؟ والعلبة التي خبّأت فيها أوّل سنّ سقط من أسنانها اللبنيّة، مَن يُعيدها إليّ؟ نحن يا أصدقاء، لو كنتم تعلمون، لا نعيش تجربة البيت يوماً بيوم مثلما نعيش تسلسل قصّة. بل إنّ ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها نعيشها كحلم يقظة. فالبيوت ثريّة بأحلام اليقظة. وهي لا تمنح نفسها بسهولةٍ للوصف. فوصفُها يُشبه كثيراً فُرْجتها للزوّار. وكلّ ما نوصِله للآخرين، ليس سوى تكييفٍ لما هو خفي وسرّي. إقرأ على موقع 180 هل يجرؤ "نواب التغيير" على تعديل قانون الأحزاب؟ من خلف الموت والدمار اللذيْن يلاحقاننا، أفكّر ببيتنا القابع وحيداً في ذاك الشارع. بانتظارنا أو بانتظار موته. فأشعر بالبرد. وبالوحشة التي يشعر بها. وأُحسّ بالذنب لأنّني تركتُه لمصيره، في أصعب الأوقات. واستبدلتُه بمسكنٍ آخر طلباً للأمان. لكنّني أواسي نفسي بتبريرٍ ساذج. بأنّ حقيبتي لم تكن تتّسع له. ولو اتّسعت، لكنتُ حملتُه معي وأنقذته من مخالب الوحش. كم أحبّ بيتنا. وكم أخاف عليه. أشمّ من بعيد رائحته الفريدة. رائحة النعناع اليابس الذي صنعته لي أمّي في الصيف الفائت. ورائحة الزبيب وهو يجفّ على صينيّة. ها أنا ألمح جارتنا سهى، وهي تُطلّ من النافذة لتُنادي على ابنها كي ينتبه وهو يحاول إخراج سيّارة أبيه من “الباركنغ”. يا الله…! كم شهد هذا “الباركنغ” نزاعاتٍ بين الجيران على أولويّة الركون فيه! كلمة أخيرة. يقول المخرج المسرحي الألماني “بريخت” (عن المنفى): “لا تدقّ مسماراً في جدار. إلقِ بمعطفك على الكرسي، فغداً ستعود إلى وطنك”. أتذكّر قوله اليوم، وأنا في رحلة النزوح من بيتي. فتراني أضعُ “معطفي” على ركبتيّ تأهُّباً للعودة إلى حياتي. وأُقسِم إذا عُدنا، بأنّني سأفرش أرض “باركنغنا” وروداً حمراء. وسأُقبّل عتبة بيتنا وأتّخذ قراراً مهمّاً. إقتضى التنويه. المصدر : جنوبيات |