طوى الرّئيس نبيه برّي لحظة تاريخيّة هي الأخطر الّتي مرّت على لبنان مهدّدة أرضه وشعبه وتاريخه وحاضره وتراثه ومستقبله وثرواته جرّاء الحرب العدوانيّة الإسرائيليّة» ليفتح صفحة «لحظة الحقيقة التي يجب أن نستدعي فيها كل عناوين الوحدة من أجل لبنان» وعلى رأس الصّفحة امتحان لكلّ لبناني، وللشّيعي قبل أي لبناني آخر».
«هو إمتحان كيف ننقذ لبنان؟ وكيف نبنيه؟».
في ندائه هذا كان الرئيس بري وطناً ينطق عن جرح غائر في جسد الدّولة، وكان لبناناً يصرخ عن ألم الهويّة الضّائعة في زواريب نقمة الطّائفيّة وهي تبحث عن نعمة لمّ شمل تنوّعها، لتكون حصناً منيعاً في مواجهة عنصريّة الكيان الصّهيونيّ.
وأن يخصّ «زعيم الشّيعة» الشّيعةَ بندائه فتلك دعوة إلى المصارحة مع الذّات والمصالحة مع الآخر، وهي جرأة فتح باب لمراجعة مرحلة وُسِمت، مبالغةً، بالشّيعيّة السّياسيّة.
وإذا كان لا بدّ من تلك المراجعة فستبقى غير ذات جدوى ما لم تلاقيها باقي القوى الطّائفيّة والسّياسيّة في منتصف الطّريق من أجل التقاط لحظة «ليست لمحاكمة مرحلة ولا للقفز فوق الجراح، ولا للرقص فوق الدماء، ولا لتجاوز التضحيات الجسام الغالية والغالية جداً جداً والتي لا يعوّضها إلّا شيء واحد هو أن نحفظ لبنان واحداً قادراً على الخروج مما تعرّض له الخروج أكثر قوة ومنعة وإصراراً وثباتاً على صنع قيامته وتثبيت دوره كأنموذج في التعايش الواحد بين مكوناته الروحية بما يمثل من نقيض لعنصرية إسرائيل».
فهل يلقى نداء رئيس مجلس النّوّاب ورئيس حركة أمل آذاناً صاغية لدى الشرّيك في الوطن والمواطنة؟!
الأيّام القليلة القادمة كفيلة بالإجابة عن تلك الأسئلة المصيريّة الّتي طرحها الرّئيس برّي على المعنيين بحفظ لبنان وضمان قيامته وبناء مؤسّساته بدءاً بانتخاب رئيس للجمهوريّة لا يشكّل تحدّياً لأحد، يجمع ولا يفرّق.
عوداً على البدء، على ذكر القائد القدوة السّيّد الشّهيد حسن نصرلله، رفيق درب التّضحيات والتّحدّيات والإنجازات والانتصارات، بدت فرحة «الأخ الأكبر» ناقصة بغياب شريك المقاومة والتّحرير على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وقد غلب الشّوق إلى السّيّد نبرة الصّوت، هو الشّوق إلى يوم مثيل ليوم أمس في 14 آب 2006 يوم تشاركا فرحة النّصر وعودة الأهل إلى الدّيار.
نادى برّي أهل الجنوب والبقاع والضّاحية وحيداً من دون أخيه، في يوم أشدّ خطورة من ذلك اليوم، فحرب أيلول فاقت حرب تمّوز لجهة أعداد النّازحين وحجم الدّمار وعدد الشّهداء والجرحى.
هي حرب أريد منها اجتثاث طائفة ليس فقط سياسيًّا بل جذريًّا بالحديث عن منطقة عازلة على طول الحدود اللّبنانيّة - الفلسطينيّة وتغيير ديموغرافيّ يطيح بفكرة المقاومة وثقافتها، وبطبيعة لبنان وفرادة تنوّعه.
نادى برّي النّازحين وفي قلبه رسالة السّيّد الشّهيد ليعود «الأحبّة إلى الدّيار هاماتهم مرفوعة، أعزّاء كما كانوا وكما هم وكما سيبقون»، ولكن، هذه المرّة عادوا من غير السّيّد، وتلك ثلمة ثلمت في قلوب المحبّين، ولن يسدّها أحد بعده!
عاد النّازحون بعيون عبرى وقلوب حرّى، وبكوا فرحاً باستعادة مساقط رؤوسهم ومناخ قلوبهم، وبكوا حزناً على الّذين لم يعودوا معهم، أو الّذين لم يجدوهم في استقبالهم، بكوا بفخر على الرّجال الّذين صمدوا وثبتوا وقاتلوا حتّى قُتلوا لنبقى ونعود.
عاد النّازحون ليستعيدوا الجثامين الودائع، وبجدّدوا الحزن مرّتين ويواروهم حيث ولدوا ليعودوا من حيث أتوا فرحين بما آتاهم لله من فضله.
وغداً، ستبحث طفلة بين الرّكام عن لعبها، وتبحث أمّها عن بقايا أبيها، وتمسح على رأس طفلتها اليتيمة بيد أرجفها الفقد وثبّتها الوعد بأنّ ما عند لله خير وأبقى..
وسيقف أب على أطلال تعبه المتراكم حطاماً أمام عينيه، ويمسك بيد ابنه ويوصيه عن لسان الإمام علي: «لا تستوحش طريق الحقّ لقلّة سالكيه»، تلك ضريبة ندفعها عن يدٍ ونحن شامخون ولو أنكرها علينا الأقربون والأبعدون!
عاد النّازحون وفي رقابهم دين لمن احتضنهم وآواهم وواساهم، وكان معهم في أحلك الظّروف سنداً وعوناً وعضداً، برغم الانقسام السّياسي والاختلاف العقائدي، واستعادوا قول الإمام موسى الصّدر: «السّلم الأهلي أفضل وجوه الحرب مع «إسرائيل».
ولكن، أمّا آن لهذه الطّائفة أن تستريح؟..
أما آن لهذا الحزن المتراكم منذ 1400 عاماً أن يستقرّ ويعبر فوق جيل أو جيلين أو أكثر؟!
أسئلة يردّدها بعبارات شتّى خصوم ومحبّون، فيأتي الجواب عن لسان الإمام الحسين بن علي: «هيهات، لو ترك القطا لغفى ونام» فعلى الحدود عدوّ يتربّص بنا ويلاحقنا طمعاً بأرضنا تاريخاً وجغرافيا.
هي عبارة تصلح أن نردّدها دائماً ونحن على تماس مع عدوّ شرس متغطرس يريدنا ولو لم نردّه، ويعلن يوقاحة نواياه بتحقيق حلم «إسرائيل الكبرى» الّتي تضمّ لبنان كلّه من جنوبه إلى شماله.
السّؤال الّذي يجب أن يطرح على كلّ اللّبنانيين طرحه الرّئيس برّي أمس: أما آن لنا أن نوحّد خطابنا ونحدّد خياراتنا ونحسم هويّتنا بوجه هذا الخطر المحدّق بنا؟
أما آن لنا أن نفكّر بتعزيز قوّتنا وتمتين وحدتنا ورصّ صفوفنا لنبحث عن وسيلة تؤمّن لنا استقراراً ومناعة وقدرة على صدّ العدوّ متى قرّر اجتياحنا؟!
هناك أسئلة كثيرة كانت مؤجّلة وجاءت اللّحظة التّاريخيّة لبحثها والإجابة عنها بروح وطنيّة وعقليّة سياديّة بعيدة من المناكفات والسّجالات الدّاخليّة الّتي لن تنتهي، ولا يجب أن تنتهي، ولكن بعد حسم الخيارات الكبرى.