تمثل الحرب عند عامة الناس غير المشاركين فيها انهيار قواعد الحياة العادية وتبدّد المنظومات القائمة بما فيها المؤسسات الحامية والناظمة للمجتمع، وغياب الأمان والشعور بالخطر والخوف الوجودي والخوف من الحصار والموت. وفي هذه الأحوال يحتاج كل إنسان ومواطن إلى ما يبعث فيه الأمل بالخروج من النفق عبر رؤية النور في نهايته وعبر التعلّق بما تبقى من مظاهر الحياة ورموزها ومقوماتها العامة والخاصة.
على مدى أيام الحرب الأخيرة علقت في أذهان اللبنانيين والعالم مشاهد لن ينسوها. من أكثرها هولاً ورسوخاً في الذاكرة مشاهد طائرات شركة طيران الشرق الأوسط التي كانت تطير وتهبط على مدارج مطار رفيق الحريري بيروت، وعلى متنها ركاب من اللبنانيين والأجانب المسافرين على أجنحة الأرز، هرباً من أهوال الحرب أو العائدين إلى أحضان عائلاتهم لمشاركتهم الصمود على أرض الوطن، والتي امتزجت وشكّلت مشهداً واحداً سجّلته العدسات ونقلته الشاشات العالمية والمحلية، مع الانفجارات التي تسببت بها صواريخ العدوّ على المواقع القريبة وحتى الملاصقة منها لمدارج المطار.
هذا المشهد السوريالي الذي استمرّ طيلة أيام الحرب لم يكن مجرّد فعل نجاح كبير للشركة الوطنية سجّلته باستمرارها في القيام بمهامها في ظروف صعبة وحسب، بل كان له أثر أعمق وأبعد من اللحظة الخطرة لكل عملية إقلاع أو هبوط. لقد مثّل هذا المشهد فعل صمود في وعي اللبنانيين لصورة الوطن الذي يتعرض جسده الهشّ لتهشيم آلة الحرب المعادية، وشكّل جرعة أمل لدى من عاينوا هذا النموذج التطبيقي في التمسّك بالحياة وبما تبقى من رموز المؤسسات الوطنية في زمن الحرب.
لا يتسع المجال لسرد الحكايات اليومية التي عاشها الجنود المجهولون من أطقم الطائرات والأطقم الأرضية في الشركة الوطنية وفي المطار، والتي ترافقت أعمالهم وتعزّزت جهودهم واحتمت بالتدابير التي نفذّها الجيش في المكان والذي تحمّل كما العادة التجريح والتشكيك والاتهام الباطل والظالم ولكنه أعطى صورة عن قدراته الكامنة النابعة من تكوينه الوطني. وبانتظار توثيق ونشر وقائع وأسرار تلك التجربة الرائدة، يكفي القول بأن هنالك أبطال وطنيون حقيقيون في الميدل إيست وفي المطار تمكنوا من تحقيق نتيجة باهرة ومن تبديد الخوف من الحصار الذي طالما كان يترافق مع العدوان.
قيل الكثير عن حصريّة تتمتع بها شركة طيران الشرق الأوسط، وحقيقتها أن هناك قرار من مجلس الوزراء (يتجدد) بعدم الترخيص لشركات نظامية جديدة باستثمار النقل الجوي للركاب، وهذا القرار الذي يقال بأنه يعطي الشركة الحق الحصري إنما يقتصر على النقل النظامي من دون النقل العارض للركاب (charter) كما أنه لا يمنع الشركات الأجنبية من تسيير رحلاتها على الخطوط النظامية نفسها، أي أن هذه الوضعية لا يمكن أن توصف قانوناً بالاحتكار. أما الأسعار فمسألة تستدعي النظر من شركة وطنية أثبتت في السلم والحرب أنها مصدر فخر اللبنانيين واعتزازهم ولن تتردّد في اعتماد سياسات تشجعهم على العودة إلى الوطن.
ليس المقال للثناء، لكن عندما تجد من يقوم بما يفوق الواجب المهني بمعناه العاديّ لا يمكنك التزام الصمت. كان بإمكان محمد الحوت وببساطة أن يتوقف عن العمل وعذره مشروع لأن الحرب قوّة قاهرة، لكنه أقدَم وتمكّن من حمل جميع الأطقم العاملة على الاستمرار بالعمل وتمكن من إقناع شركات التأمين العالمية بالاستمرار في تغطية الطائرات وهو أمر يقارب المستحيل أمام مشاهد الصواريخ المتساقطة على جوانب المطار، وتمكنت الشركة الوطنية معه ومع فريقه من أداء رسالة أملٍ وأعطت رجاءً حقيقياً في زمن الحرب.