منذ أن وجد لبنان، كان والتحدّي، وجها لوجه. لم يكن ذلك الجبل الذي ظهر فجأة إلى الوجود في منتصف العصر الجيولوجي الثالث، إلّا سباقا إلى الحياة. صارت البيئات فيما بعد، تنضم إليه، وصارت الشعوب تأوي إليه، من مهاربها. كان بالنسبة إليها، أملا يعانق أملا: الشمس والريح والأنواء، والتربة الخضراء، والماء الذي ينزل إليه، من فوق الى تحت، ومن تحت إلى فوق. ناهيك عن الثلج الذي يصنع تاجه الأبيض، على مدار العام. كان لبنان حقا، بلدا يعاند الأزمان كلها. يدخل معها في التحدّي، ويربحها، لأنه نسيج وحده في مقارعة التاريخ، وفي مصانعة الأزمنة.
منذ قرن من الزمن، دخل لبنان، في محنة وجودية. تقاطرت الدنيا عليه. فكان كلما دخل في ضيق، إنتصر عليه. لم يدخل هذا الوطن الصغير في هدنة أو في راحة، كانت الأطماع كلها تنصب عليه. غير أنه لم يعرف بلد في التاريخ، تحاصره الرياح من كل الجهات، وتراه فجأة يشقها وينتصر عليها، وكأنه عملاق من العماليق.
كان الصراع شديدا عليه، منذ أن كان إمارة معنية، ومنذ أن صار إمارة شهابية، بل قبل هذا وذاك، منذ أن كان شاطئه، عقدا من الممالك الفينيقية، تراه كان يملأ الجبل صهيلا، وتراه أيضا، يملأ البحر سفنا، ثم يصير قلاعا وحصونا على الأعداء، ثم إذ هو ينتشر في الأمداء، فيصل برجاله إلى العواصم البعيدة، ويصل بسفنه إلى الأرجاء التي كانت تبدو أنها بعيدة عن مجاذيفه، فصنع لها الأشرعة القوية، وسيّرها بإتجاه الريح، حتى رست في الموانئ القصيّة.
كان لبنان طوال دهره القديم، صانع علم وصانع معرفة. وكان شبابه، يذهبون في الآفاق، يوطدون النفوس على بلوغ الحضارة الراقية. ولهذا لا نجده إلّا وهو يرقى في معارج العلوم والفنون، وينقش أرزه، حيث البحر يفقش موجه، وحيث الصخور تقبل عليه مطواعة، وحيث ضفاف الأنهار، مسارح تعبه اليومي في ليله وفي نهاره.
كانت أصعب القرون عليه، هذا القرن الأخير. بدا وكأن العالم كله إستيقظ عليه فجأة، وصار يناوره، وصار شعبه من مناورة إلى مناورة. وكان كلما اشتدّت عليه الريح، شدّ بجناحيه إلى جذعه. ثم إذ هو يهزّ الأرجاء والأجواء، ويجعلها مقبلة إليه.
من ينجد لبنان في أوقات محنته؟...
هذا السؤال لا يردّ عليه. يدع أجياله تأخذ مراقيها، ثم ينتظر، فإذا به يرقى معهم، وإذا به يمتد ويشتدّ، حتى ليصير قلعة على نيرون عصره، على شمشون، وعلى جميع أباطرة الأرض، يخرجون إليه، يطوعونه لخدمتهم، فإذا به يخذلهم جميعا وينتصر.
أعظم محنة واجهت لبنان، في تاريخه الحديث، إعلان إستقلاله. هل يكون في خيره وفي خياره، مثل هذه الشرور التي لحقت به، سارعت دمشق تطارده، وتطالبه بأن يكون ثغر الشام، في صيدا وفي بيروت وفي جبيل وفي طرابلس. وكان يصبر على المحنة الكيانية التي إبتلي بها، أنه لا يحكم من دمشق، ولا يحكم ضدها. وصارت هذه المعادلة، طريقه لحفظ الكيان من التفتت والذوبان، تمسك بها وكانت خشبة خلاصه، في جميع المحن التي توالت عليه.
ومنذ ذلك التاريخ، دخل في صراع وجودي خفي، مع الكيان السوري. صارت دمشق تناور عليه، في الإقليم، وفي خارج الإقليم. وكادت عصاه أن تنشق، لولا حكمة من رجاله المؤسسين، كانوا يماشون الزمن حتى ينتصروا عليه.
تعرّض أبطال الاستقلال لأول محنة: حوصروا، وطولبوا، واعتقلوا. وما بدّلوا تبديلا. لبنان أولا، وكذا الاستقلال.. فالاستقلال والكيان رفيقا صبا وشريكا جهاد.
وكان الإقليم يغلي، بالوجود الإسرائيلي في فلسطين، وصارت الأمم تتداعى عليه. فأثبت هذا الوطن الصغير، بجيشه الطري العود، أنه أقسى شوكة مما كان الأعداء يتصورونه. وكلما كان يدخلون معه في التحدّيات، كان لبنان يكسب في الأخير التحدّي.
ربح لبنان التحدّي مع الكيان الإسرائيلي، بقوة إرادته، وبصلابة موقفه، وببطولات جيشه. وما أن هدأت الجبهة عليه في الجنوب، حتى دخل في التحديات مع دمشق، على الأقضية الأربع، كانت دمشق قد وضعتها نصب أعينها، وصارت تناور عليه، لسلخها عنه، وضمّها إليها. غير أن المعركة معها، كانت تطول، بحكم تبدّل الأزمنة. طمعت به جميع الحكومات السورية، واشتغلت عليه، وشاغلته، وتحدّته، في كثير من الحقب، وفي كثير من المواقف، وكانت سرعان ما تنهار وترتدّ، لا لشيء، إلّا لأن لبنان بشعبه كله، إنما وجد ليبقى.
عاش لبنان أسوأ أيامه، حين صار يحاصر بعروبته، وحين صار يحاصر بحدوده، وحين صار يحاصر بطموحات أهله، في الحرية وفي الديمقراطية، وفي العدالة الإجتماعية، وفي الحفاظ على وحدة أرضه وشعبه، سيدا حرّا مستقلا.
لا نريد أن نعدّد العثرات عليه، في مصر وفي فلسطين وفي سوريا. فقد دفع الثمن غاليا، من خيراته ومن أبناء شعبه. وكان العدو الإسرائيلي، له بالمرصاد: صعودا ونزولا. وكانت دمشق، له بالمرصاد أيضا. وكانت بالتالي محنة شعبه، في الصمود أمام كل أنواع التحدّي.
ومنذ مرحلة العظم وحسني الزعيم، والششكلي والقوتلي والزعني، حتى مرحلة الأسد، كان يجتاز لبنان التحدّيات، بصبر وثبات. صبر على مجامر الكرام، في المرحلة الناصرية، وصبر على مجامر الكرام في المرحلة الفلسطينية، وصبر على مجامر الكرام، في المرحلة البعثية، وصبر على مجامر الكرام في المرحلة الإيرانية. وكان يجتاز حواجز التحدّيات حاجزا بعد حاجز، ويكسب في الخواتيم التحدّي.
ومنذ السبعينيات حتى اليوم، ما ذاق لبنان طعم الراحة، ولا طعم الهناء. دارت عليه الحروب من كل جانب، فهدّمت مدنه وقراه واستهدف العدو والصديق والشقيق، عاصمته. وكانوا جميعا، يريدون معاداته، وكانوا جميعا يريدون معاورته. ودخلوا معه فرادى ومجتمعين، في كل أنواع التحدّيات. غير أن هذا البلد الطفل، هذا البلد الصغير، هذا البلد الوديع، غلبهم جميعا، وربح التحدّي.
لا تنظروا اليوم، إلى الجنوب الجريح، ولا إلى الضاحية الحزينة، ولا إلى بيروت، العاصمة المكلومة، بل انظروا إلى هذا الشعب، الذي ينهار كل شيء حوله، ويكسب التحدّي.
جميع الأثمان التي دفعها لبنان، من أبناء شعبه، ومن أمواله ومن أرزاقه ومن أرضه، إنما هي ضريبة وجوده التاريخي، في هذا الوسط الإقليمي. فهو محسد على ما هو عليه، ولا شيء يستطيع أن يغيّر إرادته في الوحدة والحرية والعدالة والديمقراطية. فهو يعرف كل هذه التحديات التي تناوره. غير أنه يعرف أيضا، أن لا مفر له من الاجتماع على الوحدة، وعلى أن يكسب في الأخير التحدّي.
المصدر :اللواء - د. قصي الحسين