السبت 28 كانون الأول 2024 08:15 ص

بشّار الاسد: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين


* جنوبيات

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي.

وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية.

وفيما القلب على سوريا ما بعد الفريق بشار الأسد، والرهان على قويّها الجديد، الرفيق الجولاني. ثمّة أمور آن الأوان لطرحها الآن بكلّ صراحة وشفافيّة.

كم هي النسب الحالية والدقيقة للمقيمين المسلمين والمسيحيين في لبنان؟ .

سأل بشار الأسد ضيفَه. وقبل أن ينتظر الجواب، عاجله بالقول إنّ لديه معطيات إحصائية موثوقة تشير إلى أنّ المسلمين باتوا يشكّلون نحو 74 في المئة من اللبنانيين المقيمين في بلادهم. في مقابل نحو 26 في المئة من المسيحيين . ثمّ أضاف مستنتجاً مقرّراً: المسلمون كلّهم معنا. ومعنا على الأقلّ نصف المسيحيين. فهل يُعقل أن نغيّر مواقفنا وسياساتنا، تلبيةً لشكوى أقلّية لا تبلغ 13 في المئة؟! .

هذا الكلام قاله بشار حرفيّاً في دمشق. كان ذلك مطلع عام 2001. يومها كان الرئيسُ الوريث لم يُمضِ على كرسي والده سوى نصف سنة. وكانت في لبنان بشائرُ انتفاضة ضدّ هيمنة نظامه بالجزمة على اللبنانيين، خصوصاً بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلي ورحيل والده ونداء بكركي الاستقلاليّ الشهير.

يومها نصح أحد عملاء التركيبة البعثية الأسدية في بيروت بمحاورة بعض الشخصيات اللبنانية لاستيعاب ما يجري وامتصاص ما يحصل سلماً. هكذا حلّ الوزير الشهابي العتيق، فؤاد بطرس، ضيفاً منصِتاً لمطوّلات بشار. فنكبه الدهر في أواخر حياته بأن يسمع ذلك الكلام.

لكنّ التدقيق في ما تفوّه به آنذاك منفيُّ الغولاغ السيبيري الحديث، يكشف ثلاث إشكاليات مترابطة تشكّل في كلّيّتها وتفاعلها جذور مشاكلنا وأسباب أزماتنا وعلل مآسينا، التي نسمّيها تنصّلاً وتبرّؤاً قضايا مصيرية.

الإشكالية الأولى غربية المصدر والصنع، وتحديداً أميركية المنشأ.

هناك في البعيد، في مركز قيادة العالم في واشنطن، ثمّة من دأب على النظر إلى منطقتنا على أنّها محكومة حصراً بثلاثة خيارات، لا رابع لها:

إمّا العسكريتاريا. وإمّا الإسلاميون. وإمّا الفوضى. ويتذرّعون بأنّهم حاولوا مساعدتنا مراراً. مرّة بعد 11 أيلول. ومرّة أو أكثر في العراق، ومرّات في لبنان، وصولاً إلى ربيع باراك حسين أوباما بين شتاء 2010 وربيع 2011.

برأيهم أنّ النتيجة كانت فشلاً متراكماً. حتى باتوا يعتقدون أنّ خياراتنا الثلاثة مقرونة بالدم والدمار أبداً. ولم نترك لهم إلّا الاختيار بين المقدار الأقلّ منهما. ولسوء حظّنا، يؤمن العقل السياسي الأميركي بأنّه جرّب خياراتنا تلك كلّها، فاكتشف أنّ فوضانا هي الأثقلُ علينا وعليه. وهي بالتالي الأسوأ. قبلَها يحلُّ الإسلاميون. وأحسنُ أقدارنا العسكريتاريا! وعلى الرغم من بعض يقظات الضمير السياسي الأميركي، ظلّ هذا الرأي راجحاً.

ذات يوم قبل نحو 20 عاماً، أعلنت ناظرة خارجية واشنطن الشهيرة، كوندوليسا رايس، من القاهرة بالذات، كلاماً يشبه التوبة، عن رفض بلادها وإدارتها 60 سنة من الخيارات الأميركية الخاطئة في الشرق الأوسط ( ) لأنّ محاولتنا الحفاظ على الاستقرار على حساب الحرّية، وضمان الأمن على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، أدّت إلى الإطاحة بكلّ هذه معاً .

بعدها بدّلت إدارتها رأيها. ثمّ غيّرته. ثمّ انقلبت عليه. حتى عادت فرست على شرّ ما تعرفه، ولا خير ما تجهله!

أمّا الإشكالية الثانية التي يستعيدُها كلام بشار القديم، فمرتبطة بجماعات هذه المنطقة نفسها. إشكالية مقرونة بسؤال بسيط: متى نتعلّم من كوارثنا؟ متى نعتبر من دمنا ودمعنا وأشلائنا؟ كيف يمكن لهذه الجماعات أن تكرّر الأخطاء ذاتها والتجارب نفسها، وتُعيد إنتاج مهالكها، وتدوير مذابحها، وتعويم بركها الحمر دوريّاً وموسميّاً؟

ها هي العلويّة السياسية، بطعم العلقم البعثي الأسدي، تُنهي تجربتها في سوريا، بعد نيّفٍ ونصف قرن، بأكثر من نصف مليون ضحية وما يفوق نصف السوريين من المشرّدين.

قبلَهم جرّبت السنّيّة السياسية دورها في العراق مع صدّام حسين برائحة السيجار والكيمياوي معاً. وانتهت قبل نيفٍ وعقدين إلى نكبة مستدامة أزهقت ملايين واستدرجت نصف دول الغرب وحمّلتهم مسؤولية وأد انتصاراتها العظيمة وإجهاض أمّ معاركها ولم تنتهِ النكبة حتى اللحظة.

وفيما القلب على سوريا ما بعد الفريق بشار، والرهان على قويّها الجديد. ثمّة أمور آن الأوان لطرحها الآن بكلّ صراحة وشفافيّة

مع الاثنين تستمرّ الشيعية السياسية بتركيبة هجينة، أممية ولائيّة، على إمبراطورية فارسية، في ارتكاب تجربتها في إيران. لا بل تسعى إلى تفشّيها في جوارها كلّه. دروب دمٍ وفقر وسلاسل انهيارات.

المفارقة هنا أنّ تلك التجارب كلّها حاربت فكرة لبنان. ورفضت جوهر وجوده. أي أن يكون البشر مختلفين متساوين ، وأن يعيشوا التعدّدية والحرّية معاً ، وأن ينسخوا فلسفة اتفاق الطائف، كما نصحهم الإمام محمد مهدي شمس الدين، أو أن يكتشفوا في الحياة الحرّة المتساوية الكريمة عمق ما أطلقه الكبير منح الصلح من أنّ في لبنان من المسيحية ما في العروبة من الإسلام ، وأنّ الإنسان الحرّ قادر على توليف الأربعة معاً، في سياق سعيه صوب الخير والحرّية.

الإشكاليّة الثّالثة

تبقى إشكالية ثالثة على مستوى الفرد عندنا. هذا الكائن المذبوح دوماً بسكّين زعاماته، التي يدأب على التهليل لها.

ما الذي يجعله ممسوحاً إلى هذه الدرجة؟ ما الذي يمسخه هو ذاته حاملاً أبداً بمواجهة الطاغية إمّا المباخر حين الحاكم مرفوع، وإمّا الخناجر حين الحاكم مخلوع؟ هل هو تجذّرُ مقدّسٍ ما في سلوكه الجماعي، بشكل لاغٍ لأيّ بُعدٍ إنساني آخر في شخصيّته؟

هل هو تكوينه الريفي الزراعي الطاغي على مَدينيّة الآخرين من أهله وشعبه، وهو ما جعلَه يُريّفُ مُدُنه، بدل أن يُمدّن أريافَه ويتمدّن معها سوسيولوجياً؟ أم هو إرث الخوف العميق من رعب قرون من القهر البنيوي حتى النسغ؟

التحدّي اليوم يعود إلى دمشق، حيث تجربة جديدة تستحقّ التشجيع بحذر، والترقّب بأمل

أسئلة محتملة لا غير. مع أنّ الإنصاف يقتضي التذكير بأنّ هؤلاء الناس انتفضوا ودافعوا ودفعوا مراراً وتكراراً. ثوار سوريا الحرّة فعلاً تعملقوا بوجه الطغيان في بدايات ثورتهم، قبل أن يُغرِقهم الجميع في دوّامة العنف التي لا يجيدونها.

اللبنانيون فعلوا مرّات ومرّات، آخرها قبل أربعة أعوام، حتى صار لهم جيلُ 17 تشرين، الذي سيُزهر حتماً مع أوّل ربيع. ومثلهم فعل كثيرون في محيط بؤسنا العربي. من آلاء، أيقونة السودان، إلى البوعزيزي شعلة تونس، وما بينهما من مناراتٍ لطريق لا ظلم فيه ولا ظلام.

خلاصة الكلام أنّ التحدّي اليوم يعود إلى دمشق، حيث تجربة جديدة تستحقّ التشجيع بحذر، والترقّب بأمل. فهل تكرّر تجارب الآخرين؟ أم تؤكّد أنّه يمكن لتاريخنا أن يكون ولو لمرّة مستقيماً لا دائرياً؟

هو امتحان دمشق الآن في أن تختار مرّة أخيرة بين فوح ياسمينها الواعد، وبين نتانة زنازينها البائدة.

المصدر :ليبانون فايلز