الثلاثاء 21 كانون الثاني 2025 15:06 م

حتى لا يستَلِبنُا العقل البيانيّ و لايستعبِدٌنا العقل البرهاني


* الكاتب ا. د. محمد صالح الشنطي

في غمرة الفرحة بوقف إطلاق النار؛ وهي فرحة مشروعة، فرحة الغريق حين يُنتشل من بين الأمواج المتلاطمة حيث غرق من غرق ونجا من نجا؛ لكن فريقًا منا - وهم كُثر - من النخب المتعلمة والمثقفة والأكاديمية وعامة الناس يطغى عليهم الشعور بالنصر المجيد، يخرج المقاتلون في مركباتهم يطوفون شوارع غزة يحتفلون – ولا تثريب عليهم – وسط التصفيق والتهليل، ولكننا بعد أن نقضي وطرًا نفسيًا من هذا الحدث المنعطف لا بد أن نثوب إلى وعينا وتبدأ مرحلة المراجعة والمساءلة، وهذا أمر مشروع؛ بل ومطلوب، وإن أنكره الكثيرون علينا في هذه اللحظة الاستثنائية التي يغرب فيها العقل ثم لا بد له أن يؤوب، بعيدًا عن الاتهام بالانحياز إلى فتح أو حماس كما شاع في أدبياتنا المعاصرة في سياق الفكر الشعبوي الشائع الذي كرّسه إعلام موجه – اشتغل على تغيير قناعاتنا المنطقية بجد واجتهاد بكل التقنيات والنظريات الإعلامية والنفسية وفق أجندات مدروسة اصطنعت كافة الوسائل.

السؤال المشروع والفوري: هذا الاستعراض العسكري الذي خرجت سياراته الجديدة من بين خيام المنكوبين - كما تناهى إلى أسماعنا – تحت أعين وسائل التجسس المرئية وغير المرئية والجواسيس المبثوثين وربما المستعربين أيضًا، أليس هذا خطأ فادحًا؟ خصوصًا وأن العدو يضمر الشر وربما العودة ثانية إلى الحرب، واستعراض القوة بين الخرائب والجثث تحت الأطلال، والاحتفال أمام الثكالى واليتامى والأرامل وحرق قلوبهم. غزة كلها في مأتم كبير رغم الادعاءات بالنصر المبين.

الأخطر من تزييف الوقائع تزييف المشاعر وإرغام الناس على الفرح رغم الأحزان الكبيرة، يجادلوننا ليلَ نهار - وهم بعيدون عن المآتم التي تعم الوطن - في أنه نصر مبين. نقول لهم: الإنجاز الوحيد هو وقف آلة الموت ولو إلى حين.

النخب المثقفة للأسف هي التي تماري وتناكف وتستكبر. لقد اشتغلت الفضائيات والمواقع الإلكترونية والأبواق الحزبية على تزييف الوعي؛ تناسوا في غمرة هذا الطوفان الإعلامي بجيوش المحللين الذين يتناوبون على برامج التغطية العارية كأولئك الذين يمتهنون مهنة (الزوج المستعار) ولا أقول (التيس المستعار كما يصفه الفقهاء) تأدبًا في حالات الطلاق البائن - وهو طلاق بائن بين الحاضنة الشعبية المدعاة والقيادة السياسية والعسكرية المغامرة – ما كنت لأكتب بهذا الوضوح لولا أن طفح الكيل وطالت قرون المناطحين، وها هم يحرّضون في الضفة لتصبح قاعًا صفصفًا كغزة.

لا تتفردوا بالقرار ودعوا ممثلي الشعب عبر قنواتهم ووسائلهم ورؤاهم يتصرفون وكونوا جزءًا منهم وليس عبئًا عليهم. أما هذه الخطب المجازية البليغة التي ينتجها عقل بياني ورؤية صوفية إشراقية تدل على غيبوبة الوعي، يصور لها خيالها أحلام يقظة زائفة، ونحن على استعداد لأن نتخلى عن المنطق البرهاني الذي يعتمد على المقدمات التي تفرز نتائجها المنطقية من أجل عيونكم، ولتجلسوا لتتفقوا مع نظرائكم على كلمة سواء، ولتتدبروا الأمر وتصونوا ما تبقى من تراب الوطن وكبريائه وتردموا حفر العار بين المخيمات والجثث الطاهرة التي تنهشها الكلاب في الطرقات.

المصدر : جنوبيات