الأربعاء 22 كانون الثاني 2025 10:26 ص

خالدة جرار.. بين الأبيض والأسود


* ثائر أبو عياش

عندما نطلق صرخات الألم، لا ننتظر أن تكتشف الأجيال القادمة تلك اللحظات الصامتة التي عشناها، ولا أن تلتقط الكاميرات مشاهد تُعَذِّبُنَا في العتمة. لكن مع الأسيرة المحرَرة خالدة جرار، يكمن العذاب في التفاصيل، وفي اللحظات التي لا يمكن أن تتكرر، والعيون التي شهدت الكثير لكنها اختارت الصمت. وعندما خرجت خالدة من سجون الاحتلال، شعر الجميع بتلك اللحظة المفصلية، التي فصلت بين الأبيض والأسود؛ بين الأسير الذي ضاع عمره والإنسان الذي خرج ليكمل ما تبقّى من جسده وذاكرته، لكنه لا يستطيع أبداً أن يهرب من تلك الأيام التي طالت أكثر مما يجب.

اللون الأبيض على رأسها... رمزية الشعر ومرارة الأعوام

خالدة جرار، الأسيرة الفلسطينية التي أمضت أعواماً طويلة في سجون الاحتلال، هي امرأة لا تشبه غيرها. لقد بدأت ككل فتاة فلسطينية تتمتع بحياة طبيعية، لكنها كانت تحمل في قلبها حلماً لا ينطفئ؛ حلم التحرر، والعودة، والعيش في وطنها بحرّية. وحين اعتُقلت، كانت في ذروة شبابها، لكن الأعوام التي أمضتها وراء القضبان كانت كفيلة بأن تترك آثارها العميقة، ليس فقط في روحها، بل أيضاً في جسدها.

وقبل الاعتقال، كان شعر خالدة أسود كليل فلسطين، وداكناً، وموحياً بالحياة، لكنه أصبح أبيض بعد أعوام من الأَسر. ربما يبدو هذا التغيير سطحياً، لكنه يعكس حقيقة مريرة؛ فالأبيض هنا لا يعني الطهارة أو النقاء، إنما هو لون التحدي، ولون الضغوط المتراكمة، أعوام الألم، والدموع، والحرمان. إنه اللون الذي تمزقت فيه الأحلام، لكنه يعكس في الوقت ذاته صلابة لا تكلّ ولا تستكين.

خالدة التي خرجت لتكتشف أن شعرها الأبيض أصبح رمزاً لأعوام من الحرمان، لم تجد في ذلك مجرد تغيير بيولوجي، بل أيضاً شعرت بأن الزمن قد سرق منها الشباب. وفي تلك اللحظات، رأت أن لون شعرها الأبيض هو شهادة على معركة لم تنتهِ بعد، وعلى قسوة السجن وأوضاعه الصعبة، وكذلك على القوة التي اكتسبتها من تلك الأعوام الطويلة.

السجن لم يكن سوى محطة في رحلة طويلة

السجن لا يعبّر سوى عن فصل واحد في حياة خالدة جرار، وهو فصل مظلم، لكن كان هناك دائماً ما يتجاوز الجدران. وعلى الرغم من الحديد، فقد كانت خالدة تقاوم العزلة مقاومةً أعادت إليها توازنها، وجعلت منها رمزاً نضالياً. والسجون التي قصدتها لم تكن إلاّ محطات في طريق نضال طويل، لكنها تركت بصماتها، بدءاً من جسدها الذي عانى جرّاء التقييد والحبس، وصولاً إلى روحها التي حافظت على شجاعتها.

وداخل زنازينها، أغمضت عينَيها مرات عديدة، واستحضرت خيوط الحرّية التي كانت تنتظرها. كان الزمان يمر ببطء شديد، والليل أطول من أي وقت مضى، والدموع في بعض الأحيان كانت تختلط بالأنفاس، لكن خالدة، على الرغم من الجروح العميقة في قلبها، فقد كانت تقتات من عزيمتها. وفي تلك اللحظات الصعبة، كان الزمن، الذي سلبها أعواماً من حياتها، يصطدم بفكرة أن الوقت ليس كافياً لحياة واحدة، وقد اختبرت من قبل مرارة السجن، لكنها رفضت أن تكون أسيرة لزمن مؤلم.

بين الأبيض والأسود: فلسفة المعاناة والانتصار

حين نذكر الأبيض والأسود، نذكر الفوارق الظاهرة للعيان، لكن بين هذين اللونين يكمن كل ما هو حي. فالأسود في الثقافة الفلسطينية يمثل الظلام والاغتيال والخراب، بينما الأبيض يعكس النقاء والأمل، وبين هذين اللونين، كانت خالدة؛ إذ أمضت أعواماً في سجون الاحتلال، جالسة في الظلام، منتظرة فجر الحرّية.

لكن، ماذا عن الفضاء بين الأبيض والأسود؟ إنه الفراغ الذي لا يتحقق فيه النقاء التام ولا اليأس المطلق، وهو الفضاء الذي عاشته خالدة. ولم تكن في السجن مجرد رقم على ورقة، بل أيضاً كانت صوتاً فلسطينياً حيّاً في السجون، وكانت قد نسجت في هذه المساحة بين الأبيض والأسود مقاومة لا تكلّ ولا تملّ، كما كانت تمثل الأمل في لحظات من العتمة، والصوت الذي يصرخ بأعلى طبقاته في وجه الظلم، وكانت تحمل جروحها على كتفَيها كعلامة على ماضٍ طويل يرفض النسيان.

التجربة الخالدة بين عتمة السجن وضياء الحرّية

على الرغم من قسوة الأَسر، فقد خرجت خالدة جرار إلى الحياة بكل قوتها، وعندما حطت قدماها على الأرض، لم يكن ذلك مجرد إطلاق سراح جسدي، بل أيضاً كان ولادة جديدة لنضال جديد؛ إذ أصبحت تلك اللحظة لحظة لا يمكن محوها من ذاكرة الشعب الفلسطيني، فقد خرجت، لكن ليس كما دخلت، إنما تغيرت، والشعر الأبيض على رأسها كان شاهداً على ما مضى، وشهادة لمقاومة لم تنكسر، إنما بعكس ذلك، فقد كانت قوة جديدة نمت في قلبها.

خالدة جرار اليوم هي مثال لكل امرأة فلسطينية، وكل أسير حرّية. ربما تكون قد خرجت جسدياً من السجون، لكن تجربتها التي عاشتها في تلك الزنازين، والتي تركت أثرها في شعرها، ستظل خالدة في قلوب كل مَن عرف قصتها، وهذا هو الفارق بين الأبيض والأسود؛ فالأبيض لا يعني السلام، إنما يعني الاستمرار في العيش على الرغم من كل شيء.

لقد أكملنا مع خالدة جرار هذا المسار النضالي الطويل، ولن نتوقف عن الحلم بأن يصبح اللون الأبيض، يوماً ما، رمزاً للنصر الكامل الذي يستحقه كل فلسطيني.

المصدر :مؤسسة الدراسات الفلسطينية