هي مساحة من الحزن قد بسطت ظلالها الكثيفة على المشهد الجنوبي، فنسجت بخيوطها ألواناً من الصور المُلتاعة، لتجسد الواقعة التي حلّت بأهلنا من جميع جوانبها، فكان منها المأساوي مع ما يعتصرها من مصائب وحسرات، والملحمي مع ما يكتنفها من شجاعة وجرأة. ومنها ما مر بأبعاده الحسية والمعنوية على بعض شاشات التلفزة يوم 27 الشهر المنصرم من دون أي تعليق رسمي أو أية متابعة إعلامية رغم هول ما نزل بهم، لتعبر بثقل رصيدها على وسائل التواصل الاجتماعي تعاطفاً افتراضياً عابراً للفضاء. إنهم أهل الأرض الذين أصروا بفطرتهم المعتادة مع من معهم من أبناء البقاع على دخول البلدات والقرى التي احتلها جيش العدو بعد أن رفض الانسحاب منها مع انتهاء مهلة ال60 يوماً، متسلحاً بالدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار، التي مدّدت قرار العمل به لغاية 18 فبراير إنقاذاً لاسرائيل من نفسها. وبعيداً كل البعد عن تظاهرات النصر والابتهاج التي جالت في بيروت وضواحيها تأييداً لمحاولات أصحاب الأرض العودة إلى ما تبقى من أرزاقهم وجثامين أبنائهم عند الحافة الأمامية، فإن المشهد المؤثر لذوي الشهداء والمتضررين من العدوان قد غلب كل الأحداث وطغى على كل بهجة، بعد أن نزفت الآمهم أوجاعاً مكبوتة فوق ميدان فلذات أكبادهم، ضمن لوحة واحدة لكن في صور متفرقة عن بعضها، مَثلها كمثل الفصول الأربعة في العام الواحد:
أولها في إمرأة اتشحت باللباس الأسود حتى القدمين، انحنت فوق منزل يرقد تحت أنقاضه شهيدين من أبنائها، فناحت عليهم ب"إرجوزة" من وحي التراث العاملي…وثانيها في صورة والد شهيد من سكان بلدة أنصار، ذهب باكرا إلى "عيتا الشعب" ليستعيد جثمان ابنه، فتعرف عليه من صورة حفيدته داخل جعبة السلاح، ليعود بعد ساعات حاملاً "جمجمته" بصمت وغصة يعلوهما صبر وصمود…وثالثها صورة إمرأة في "مارون الراس" تفوح منها شجاعة الرجال، تقدمت حتى كادت أن تلامس أيديها دبابة العدو، حين وقفت أمامها تتحداها بقلب مملوء صلابة وعزة… ورابعها في صورة لجندي اسرائيلي سرق قارورة غاز زرقاء اللون من أحد البيوت عند أطراف بلدة "بنت جبيل"، ووضعها في ناقلة الجند، فطارده صاحب الحق ليستردها مخاطراً بحياته تاركاً خلفه منزله المدمر، وعندما استحصل عليها، عاد بها إلى أهله فرحاً مسرورا، لسبب واحد هو أنه استعاد حقه المعنوي وليس المادي من عدوه التاريخي.
هذه الصور المعبرة وغيرها من الصور العفوية، المعطوفة على مشهد إصرار الأهالي الدخول بالرايات الصفراء مهما بلغت التضحيات ونجاحهم في تحرير عدد من القرى قد أربكت العدو، مما استدعى من "واشنطن" إعلان قرار ليلي سريع يقضي بإطالة فترة بقاء قوات الاحتلال في لبنان، ليس بهدف استكمال تفكيك البنى التحتية لحزب الله، إنما بهدف ضمان مصالح اسرائيل العليا، وهي :
1. منع تكرار "سيناريو" انتصار العام 2000، بعد أن قلب مشهد الجنوبيين العائدين إلى قراهم المعادلة في 27 يناير/ كانون الثاني المنصرم، حين ظهروا وكأنهم حرروا هذه القرى بالقوة، بعد أن كان الجيش الإسرائيلي يمنع السكان من العودة إلى قراهم، مما أعطى لدخولهم بهذا الشكل صورة نصر آخر، خاصة أن كلهم عادوا رافعين رايات المقاومة. في حين كان العدو قد راهن من خلال القصف المتعمد للأماكن السكنية أثناء الحرب على زعزعة الثقة بين البيئة والمقاومة ومن ثم الانقلاب عليها.
2. محاولة الالتفاف على مأزق الاحتلال الداخلي في ظل انتقادات المستوطنين الموجهة ضد حكومة "نتانياهو" على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان، حيث يرون فيه اتفاق استسلام وبأن "حزب الله لم ينته ولم ينهزم"، لهذا ما زال المستوطنون يرفضون العودة إلى بيوتهم، وقد زاد رفضهم سوءاً مشهد الحافزية لدى سكان جنوب لبنان من أجل العودة إلى منازلهم وقراهم المدمرة، مقابل تململ وتردد المستوطنين في العودة إلى شمال فلسطين المحتلة، مما أثار حفيظة الجيش الذي وجّه انتقادات لاذعة للمستوطنين.
3. استكمال جيش الاحتلال أعمال السرقة والنهب للمنازل والأشجار المعمرة والتربة الخصبة والمواشي ومحطات الكهرباء والأعمدة وغيرهم ونقلهم إلى داخل فلسطين المحتلة، ومن ثم افتعال الحرائق والتدمير والتغيير في معالم الطبيعة للتغطية على جرائم حربه، كونها تعتبر انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس/آب 1949، والتي تنص على حماية الأشخاص والممتلكات خلال النزاعات المسلحة. هذه الأعمال الأجرامية أعادت الذاكرة العاملية إلى اليوم الذي شن فيه جيش الإنتداب الفرنسي حملته العسكرية الواسعة ضد قرى جبل عامل في العام 1920، التي اتفق على تسميتها بحملة "النيجر".
4. استفزاز حزب الله عبر إطلاق العدو للنار تارةً باتجاه المدنيين الذين يحاولون الوصول إلى قراهم، وتارةً أخرى بقصفه لأهداف يدعي أنها للمقاومة، بعد أن أعاد تفعيل نشاطه الجوي في أجواء شمال الليطاني. مبرراً في أنها "رداً على خروقات حزب الله"، من دون تحديد نوع هذه الخروقات، بهدف إما حمله على الرد بالمثل واستدراجه إلى حرب أخرى أكثر تدميراً، وإما للاستمرار في استراتيجية إضعافه بغية استثمارها داخلياً في الحكومة المرتقبة.
ومهما يحاول العدو ويعمل على محو معالم القرى الجنوبية، فإنه غير قادر على سلب إرادة اللبنانيين في العودة وإعمار ما تهدم. ومهما مارس من استفزازات لجرّ حزب الله إلى مصيدته، فإنّ موعدهم في 18 شباط/فبراير مع ما يحمل هذا الموعد من استحقاقات غامضة، إن لجهة التمديد مرة ثانية لمهلة وقف إطلاق النار مع ما يترتب عليه من مضاعفات خطيرة، أو لجهة الانسحاب الكلي حتى الخط الأزرق، مع احتفاظه ب"حرية التحرك" تجاه قرى الجنوب عامة وجنوب الليطاني خاصة، وأخطر ما فيها تلك التي تهدف من خلالها إلى تقييد عملية إعادة الترميم والبناء، أقله عند قرى الحافة الأمامية، عبر مزاعم مزيفة تحت عنوان: "محاولات إعمار بنى تحتية لحزب الله"، مبيحاً لنفسه استهداف ما يراه مناسباً ضمن هذه القرى، مما سيعيق عملية الإعمار ويضع اتفاق وقف إطلاق النار في عين العاصفة أو يعيده إلى سلة القرار الأمريكي.