![]() |
الثلاثاء 11 شباط 2025 10:55 ص |
المراجعات السياسية اللبنانية مطلوبة.. و"الحزب" أولاً |
* جنوبيات في لبنان ثمة حقيقة أثبتتها التجارب: لا يمكن لأي فريق أو طائفة إلغاء فريق أو طائفة أخرى سياسياً. هذه مسلّمةٌ لم تكرّسها فقط التجارب والتسويات والاتفاقيات الداخلية والخارجية، بل تكرّست، وبشكل مؤسف في محطات عدة، من خلال أحداث أمنية وقعت في فخّها معظم المجموعات والأحزاب السياسية، وكادت أن تغرق البلد في كثير من الأحيان في دوّامة جديدة من الحروب الأهلية المتنقّلة، وذلك كلّما توهّم فريق بأنه يستطيع فرض أجندته السياسية على الآخرين، أحزاباً أم مكونات طائفية. منذ استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي في العام ١٩٤٣ إلى حرب العام ١٩٥٨ فالحرب الأهلية في العام ١٩٧٥، مروراً بأحداث ٧ أيار/مايو ٢٠٠٨ وصولاً إلى يومنا هذا، لم يؤدِ استخدام واستغلال العنوان الوجودي الطائفي والمذهبي إلا إلى الاقتتال الداخلي بين أبناء الوطن الواحد، مثلما أدخل لبنان في دوامة أزمات سياسية أدت إلى ضرب الدستور وتعطيل مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أداة للمناكفات السياسية حتى وصل البلد إلى ما وصل إليه من انهيار أمنيّ وسياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، وإلى القضاء على مفهوم المواطنة من خلال تشويه الإدراك المجتمعي للعلاقة بين المواطن والدولة. ومن المُسلم به أنّه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥ تصاعد النفوذ الشيعي في لبنان، إلى حد تكريس مقولة “حكم الشيعية السياسية”. وقد عرف لبنان خلال تلك المرحلة عدداً كبيراً من الأحداث السياسية والأمنية بسبب التحولات التي شهدتها المنطقة لا سيّما تلك التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وكانت نتيجتها تمدد النفوذ الإيراني في دول مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان. في تلك المرحلة، انقسم لبنان إلى محاور وساحات، وأطلق كلّ فريق أو محور “عدّته” في الصراع على النفوذ السياسي بعناوين طائفية ومذهبية. بلغت “الشيعية السياسية” ذروة نفوذها في السلطة، وكغيرها من القوى عبر التاريخ اللبناني، ارتكبت العديد من الأخطاء التي دفع لبنان ثمنها في استقراره الداخلي وفي تعميق الشرخ بين الشعب اللبناني على المستوى الطائفيّ، وأبرزها ٧ أيار/مايو ٢٠٠٨ وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري (كانون الثاني/يونيو 2011) عندما كان في زيارة رسمية إلى واشنطن من خلال استغلال بدعة “الثلث المعطّل” في الحكومة. أدّت هذه المحطات إلى خسارة حزب الله الكثير من رصيده الشعبي الوطنيّ كحركة مقاومة عرفها لبنان منذ العام ١٩٨٢ وساهمت في تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي في العام ٢٠٠٠ ثمّ أفشلت مخطط الاحتلال في عدوان تموز ٢٠٠٦. سقط حزب الله في وحل الصراع المذهبي في المنطقة وبخاصة بعد انخراطه في معركة دعم النظام السوري في العام ٢٠١١، بما يتجاوز البعد الدفاعي لسلاحه، أي حماية الحدود اللبنانية. وعلى الصعيد الداخلي، لم ينجح “الثنائي الشيعي” في تثبيت وحماية عملية الفصل التي قام بها قسم لا بأس به من المواطنين الذين ينتمون إلى طوائف ومذاهب مختلفة، بين صورة وتاريخ الحزب كمقاومة وبين دوره كحزب سياسيّ مذهبيّ يُسيطر على مقاليد الحكم بالشراكة مع آخرين طبعاً من مختلف الطوائف. هنا، لا يُمكن تجاهل دخول المنطقة في عصر التطبيع وما رافقها من خطة لضرب فكرة المقاومة ضد إسرائيل وشيطنتها. وبدل أن يقوم الفريق المعني بالدفاع عن شرعية حق لبنان في المقاومة من خلال الاحتواء والانفتاح ومن خلال حماية الشراكة السياسية لكل الأطراف وعدم إقصاء أي فريق لا سيّما وأن النظام في لبنان يقوم على الطائفية، كان الرد في الانغماس أكثر في فرض السلطة والنفوذ في الداخل وذلك من خلال تعطيل الحكومات أو مسار تشكيلها، وشيطنة كل الآراء المعارضة وأي حراك شعبيّ يُعارض الفساد الذي لا يقتصر على فئة لبنانية بل له امتداداته العميقة في بنيان الدولة اللبنانية؛ زدْ على ذلك اعتماد خطاب سياسي لا يخلو من الفوقية وفائض القوة الذي امتدّ إلى قواعد “الثنائي” وترجم بحملات تخوين لكل من يخالفهم الرأي ودائماً باسم المقاومة! حقبة “الشيعية السياسية”! بعد “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، أطلقت المقاومة في لبنان والمتمثّلة بشكل أساسيّ بحزب الله جبهة إسناد غزة. خسر لبنان الحرب أمام إسرائيل، وأصيب حزب الله بضربة موجعة لا سيّما مع اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، وترافق كل ذلك مع تبدّل موازين القوى في المنطقة لمصلحة الأميركيين وحلفائهم من جهة ولغير مصلحة الإيرانيين وحلفائهم من جهة ثانية. عبر التاريخ السياسي، يؤدي كل تبدّل في ميزان القوى لمحور معيّن إلى تراجع حضور ونفوذ القوى المرتبطة به، وهذا ما حدث في لبنان مع ظاهرتي “المارونية السياسية” و”السنية السياسية”. من هنا، وبعد كل ما شهده لبنان من انهيار سياسيّ واقتصاديّ في حقبة ما تُسمى “الشيعية السياسية” وبعد نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ودخوله حقبة الوصاية الأميركية وفي ضوء تبدّل ميزان القوى في المنطقة وسقوط “محور المقاومة” أو بالحد الأدنى تلّقيه ضربة موجعة، من الطبيعي أن يتمّ الحديث عن تراجع نفوذ “الثنائي” على المستوى الوطني العام. رد “الثنائي الشيعي” على كل تلك التطورات بحملة كان يتّهم فيها خصومه السياسيين بالانقلاب على الميثاقية والدستور وبمحاولة “كسر وإلغاء الوجود الشيعي” في لبنان. في المقابل، بدأ خصوم حزب الله بشكل خاص و”الثنائي الشيعي” بشكل عام، بشن حملة إعلامية معتمدين فيها لغة لا تخلو من الشماتة والسخرية من خسارة الحرب، متجاهلين أن الحرب الإسرائيلية على لبنان أدت إلى استشهاد وجرح الآلاف من المواطنين اللبنانيين، وتدمير عشرات الآلاف من الوحدات السكنية والتجارية لا سيما في الضاحية الجنوبية وبيروت والعديد من مدن وقرى الجنوب والبقاع، فضلاً عن ضرب كل مقوّمات الحياة في الجنوب حيث ما تزال إسرائيل تحتلّ قرى لبنانية عديدة حتى يومنا هذا. ضرورة المراجعة لقد دخل لبنان حالياً في مرحلة سياسية جديدة هي الأصعب في تاريخه، وبرغم الشعارات الوردية من نوع “عودة لبنان إلى الحضن العربي” ووعود الإصلاح والمحاسبة وغيرها، إلا أن لبنان كدولة مهددٌ باستقراره الداخليّ وبأمنه وبمستقبل صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي. وهنا تقع المسؤولية الأكبر على “الثنائي” كونه شكّل ركيزة أساسية للحقبة التي سبقت ما بلغناه من مآلات. من هنا، يمكن الاستنتاج أن منظومة الفساد السياسي هي المسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وعن حالة العزلة الدولية والإقليمية التي يعاني منها لبنان، وبالتالي، لا يُمكن الاستمرار في النهج نفسه في إدارة الحكم والدولة، وبالأخص، لا يستطيع لبنان اليوم الالتفاف على القرارات الدولية التي وافق عليها المعنيون (حركة أمل وحزب الله) لأن ذلك سيؤدي إلى تدمير ما تبقى من لبنان بكل طوائفه ومجموعاته، وبالتالي سيخلق حالة من العزلة للطائفة الشيعية داخلياً وخارجياً. إن كل الأحزاب السياسية اللبنانية معنيّة اليوم بإجراء بمراجعات لخطابها ونهجها وممارساتها لمحاولة إنقاذ ما يُمكن انقاذه من لبنان قبل فوات الأوان. ولأن معظم هذه التحوّلات تبّدت للعيان في ضوء نتائج الحرب الإسرائيلية، فإن حزب الله، وهو الوليّ على دماء الشهداء الذين سقطوا في هذه الحرب دفاعاً عن لبنان، مطالبٌ أكثر من غيره بمراجعة خطابه وسياساته سواء في الداخل اللبناني أو على الصعيد الإقليمي. في الختام، أعود إلى نقطة البداية. لا أحد في لبنان يستطيع إلغاء الآخر. والمعركة اليوم ليست معركة وجودية لطائفة دون أخرى. فلبنان بكل طوائفه منهكٌ حدّ السقوط الكليّ. وكما تراجع النفوذ المسيحي ثمّ الإسلامي السنّي في مراحل عدة من تاريخ هذا الوطن، فإن تراجع النفوذ الشيعي في الحكم لا يعني الإقصاء ولا كسر الطائفة الشيعية التي تشكّل جزءاً أساسياً من لبنان وانتمائه وامتداده العربيين، والتي لا يحميها (كباقي الطوائف) إلا خيار الدولة بمفهومها الصحيح. إن لبنان يحتاج اليوم إلى نهج جديد لإدارة شؤون الدولة في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة وصولاً إلى وضع أساسات جديدة وصلبة لإعادة النهوض على أساس القانون والمواطنة والحوكمة الصحيحة والإصلاح. هذه العناوين ليست ترفاً، بل حاجة ضرورية وملحّة لكي يبقى لبنان بكل طوائفه ومذاهبه، ولكي لا تذهب تضحيات الشهداء سدى في دهاليز الاقتتال الأهلي من جديد. المصدر :180 بوست |