يُحكى أنّ الوزير المهلّبيّ كان كاتب السّلطان معزّ الدّولة بن بُويه، وقد كان قبل الوزارة معوزًا شديد الفقر، إذ سافر ذات مرّة ولقيَ في سفره مشقّة فاقت قدرته على التّحمّل. وقد اشتهى اللحم فلم يكن بإمكانه تذوّقه لأنّه لم يجد ثمنه. وكان معه رفيقٌ يقال له أبو عبد الله فقال المهلّبيّ مرتجلًا:
ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه
فهذا العيشُ ما لا خَيرَ فيهِ
ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي
يُخَلِّصني من العيشِ الكَريهِ
إذا أبصرتُ قبرًا مِن بعيدٍ
وددتُ لو أنّني ممّا يليهِ
ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍّ
تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ
فلمّا سمع رفيقه تلك الأبيات اشترى له لحمًا بدرهم، وقام بطبخه وأطعمه ثمّ تفارقا.
من بعدها تقلّبت الأمور مع المهلّبيّ وتحسّنت أحواله، وأصبح وزيرًا لمعزّ الدّولة البيويهيّ. وفي المقابل اشتدّت الضّائقة على صاحبه عبد الله (الذي اشترى له اللحم في تلك السّفرة)، فقصد مقرّ الصّديق القديم، وأراد أن يدخل على الوزير المهلّبيّ لكنّ الحاجب منعه، فكتب أبياتًا على رقعة ثمّ دفعها إلى الوزير المهلّبيّ وقال فيها:
ألا قل للوزير فدتْه نفسي
مقال مُذَكِّرٍ ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ
(ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه)
فلمّا قرأ الوزير المهلّبيّ الرقعة وقف عليها، وتذكّر صاحبه، وهزّته أريحيّة الكرام، فأمر له بسبعمائة درهم وكتب على ظهر رقعته:
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ}. [البقرة : 261]
ثمّ قلّده عملًا يرتفق به ويرتزق منه.
إنّه كريم النّفس الذي لا يتغيّر بتغيّر الأحوال، إذ إنّ الوفاء سمته، والأخلاق في حسن سيرته، والجود في عبق سجيّته.
"أمّا عندنا في زمن القحل والمحل فحدّث ولا حرج، عن من على أهله وناسه خرج، ولا يسعى إلى تحقيق الخير والفرج، لأنّه امتطى أعلى الدّرج، ونسي من أسفله في ضيق وحوج، وعند أوّل محطة انزوى وعرج".
آخ يا بلدنا...