الثلاثاء 4 آذار 2025 13:35 م

لبنان يفتقد "بابا المبادرات"


* جنوبيات

 

يمثّل بابا الفاتيكان فرنسيس ظاهرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فقد قام بعدّة مبادرات لم يسبقه إليها أحد من الباباوات السابقين الذين يبلغ عددهم 266. وكان القدّيس بطرس أوّلهم في القرن الميلادي الأوّل.

سجّل الحبر الأعظم مع الإسلام ثلاث سوابق تاريخية: كان أوّل بابا يزور الأزهر الشريف في القاهرة، وأوّل بابا يزور النجف في العراق بما يمثّله من رمزية مرجعية إسلامية شيعية. وكان أوّل بابا يبرم وثيقة تفاهم وتعاون إسلامي – مسيحي للعمل المشترك على معالجة قضايا إنسانية عامّة (وثيقة أبو ظبي). كما كان أوّل بابا يبدي تعاطفاً عمليّاً مع مسلمي الروهنغا الذين طُردوا من ديارهم في ميانمار ولجأوا إلى بنغلادش.

سجّل مع المسيحية ثلاث سوابق تاريخية أيضاً. فكان أوّل بابا (كاثوليكي) يجتمع إلى بطريرك موسكو الأرثوذكسي. حدث ذلك في هافانا عاصمة كوبا. ثمّ كان أوّل بابا يستقبل في الفاتيكان بطريرك إسطنبول بارثالوميو الذي يُعتبر أوّلَ بين بطاركة الأرثوذكس في العالم لما تمثّله إسطنبول من رمزية معنوية للكنيسة الأرثوذكسية، التي كانت عاصمة لإمبراطوريّتها البيزنطية التي انشقّت عن الكاثوليكية.

كان الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية كذلك أوّل بابا يزور الدول الإسكندينافية التي تتّبع المذهب الإنجيلي ويصلّي في كنائسها ويفتح صفحات تعاون وتلاقٍ معها تقوم على مبدأ الاعتراف بمسيحيّتها. وكانت هذه الكنائس قد انشقّت في القرن السادس عشر عن الكنيسة الكاثوليكية الأمّ واعتنقت المذهب الإنجيليّ.

تسوية العلاقات مع الصّين اللادينيّة

مع الصين اللادينيّة اتّخذ مبادرة أحجم عنها من سبقه من الباباوات لمعالجة قضيّة تتعلّق بصميم دور الكنيسة الكاثوليكية. فبعد عقود طويلة من المقاطعة وسوء العلاقات، بادر إلى تحقيق تسوية أعطت الدولة الصينية دوراً في اختيار وتعيين البطاركة المحلّيّين. وهو أمر كان يُعتبر من حقوق الفاتيكان حصراً. وقد آثر البابا فرنسيس إنهاء القطيعة مع الصين التي دامت عقوداً طويلة أدّت إلى تراجع دور الكنيسة وانحسار نشاطاتها نتيجة سوء علاقاتها مع الدولة. وتتمتّع اليوم العلاقات بين الصين والفاتيكان بكثير من الودّ والاحترام المتبادلين.

شاء القدر أن يعود لبنان إلى التنفّس الطبيعي في الوقت الذي يعيش فيه البابا فرنسيس على التنفّس الاصطناعي
على الرغم من كثرة زياراته الراعويّة للعديد من الدول في الشرق والغرب، شكّلت زيارة البابا فرنسيس لمرسيليا في فرنسا سابقة جديدة تُضاف إلى سجلّه الاستثنائي. فهي الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها بابا الفاتيكان لفرنسا منذ أن رفض نابليون أن يتولّى الحبر الأعظم تتويجه، كما كان سائداً في أوروبا في ذلك الوقت. يومها قرّر نابليون تتويج نفسه.

البابا

قبل ذلك ذهب نابليون إلى حدّ اعتقال البابا بيوس السادس واحتلال روما والفاتيكان. لم تكن علاقات الفاتيكان بفرنسا سيّئة دائماً. وربّما الأصحّ القول إنّها لم تكن حسنة دائماً. فقد تعرّضت الحركة المسيحية “الجزويتيّة” (اليسوعيّة) للاضطهاد في فرنسا فترات طويلة. ولقد شهد العالم اليوم، وخاصة فرنسا والعالم الأوروبي، كيف استقبلت فرنسا ممثّلةً برئيسها نفسه بابا ينتمي إلى هذه الحركة الجزويتيّة. ثمّ إنّه أوّل بابا في التاريخ ينتمي إلى هذه الحركة الدينية المسيحية الكبيرة التي نقلت المسيحية الكاثوليكية إلى شرق آسيا بما في ذلك اليابان والصين.

الصّراع مع فرنسا

تفاخر فرنسا بأنّها تفصل الدين عن الدولة، ولذلك رسم الاستقبال الرسمي الذي جرى للبابا في مرسيليا العديد من علامات الاستفهام حول: كيف؟ وأين؟ بل وحتّى ما هو جدوى هذا الفصل؟ فقد استمرّ الخلاف بل الصراع بين باباوات روما وملوك فرنسا في العصور الوسطى فترات طويلة واتّخذ أشكالاً حربيّة، حتى اضطرّ أحد الباباوات إلى مغادرة مقرّه الرسمي في الفاتيكان (روما) واللجوء إلى مدينة أفينيون الإيطالية، التي أصبحت فرنسية فيما بعد حتّى اليوم.

 سوء حالة لبنان الصحّية حرمه من زيارة البابا فرنسيس لدولة  وصفها البابا يوحنّا بولس الثاني بأنّها دولة العيش المشترك
سجّل كثير من الباباوات سوابق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، إلا أنّها كانت سوابق محصورة في الإطار الكنسي التنظيمي أو في الإطار المسيحي التعبّدي الخاصّ. على سبيل المثال حرّم البابا غريغوريوس السادس عشر الذي عاش في القرن التاسع عشر بناء خطوط السكك الحديدية، ووصَف الطرقات السريعة بأنّها تؤدّي إلى جهنّم، وعارض حتى إنارة الشوارع. ولكنّ خطوط السكك الحديدية تمتدّ اليوم إلى داخل الفاتيكان، ومرتبطة بشبكة مواصلات القطار الإيطالي. وتزداد الشوارع الداخلية والحدائق العامّة داخل الفاتيكان روعةً وجمالاً مع إضاءتها في الليل.

سوابق في العلاقات مع الأديان والثّقافات الأخرى

أمّا البابا فرنسيس فقد تجاوزت سوابقه الكنيسة ودور الفاتيكان في الدين المسيحي لتشمل العلاقات مع الأديان والثقافات الأخرى على القاعدة التي ردّدها هو نفسه: “من أنا حتّى أحكم على ما في قلب الإنسان”؟

في سوابقه العديدة أكّد البابا فرنسيس القاعدة العامّة التي تقول إنّ الدين هو لخدمة الإنسان وليس العكس. وتترجم وثيقة الأخوّة الإنسانية، التي صدرت في أبو ظبي في عام 2019 حاملةً توقيعه وتوقيع إمام الأزهر الشريف، هذا الالتزام الديني والأخلاقي على أبعد مدى.

سجّل الحبر الأعظم مع الإسلام ثلاث سوابق تاريخية: كان أوّل بابا يزور الأزهر الشريف في القاهرة، وأوّل بابا يزور النجف في العراق
حرمه سوء حالته الصحّية من القيام بمبادرات عديدة أخرى لمدّ جسور التفاهم الإنساني مع أهل الأديان والعقائد الأخرى، وكان ذلك مؤلماً له. إلّا أنّ سوء حالة لبنان الصحّية حرمه من زيارة البابا فرنسيس لدولة  وصفها البابا يوحنّا بولس الثاني بأنّها دولة العيش المشترك، وكان ذلك أشدّ ألماً. إذ غرقت الدولة، التي علّق عليها الفاتيكان الآمال لحمل مشعل مقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني (نوسترا إيتاتي 1965)، منذ ذلك الوقت في صراعات وحروب عشوائية عطّلت دورها الرسولي… وهو دور شهد عليه بعد البابا بولس السادس كلّ من البابا يوحنّا بولس الثاني (السينودس من أجل لبنان)، والبابا بنديكتوس السادس عشر (السينودس من أجل الشرق الأوسط). وشهد عليه أيضاً اللبنانيون الذين يؤمنون بهذه الرسالة ويتمسّكون بها.

شاء القدر أن يعود لبنان إلى التنفّس الطبيعي في الوقت الذي يعيش فيه البابا فرنسيس على التنفّس الاصطناعي.

شفى الله لبنان بمعجزة من عنده… فهل يشفى بابا المحبّة والسلام؟

المصدر :أساس ميديا