الأحد 29 حزيران 2025 07:59 ص

أين وصلنا... وإلى أين نتوجه الآن؟


* جنوبيات

يستحق الرئيس دونالد ترامب تداعيات تسرّعه بإعلان الانتصار العسكري على إيران وهرولته إلى إعلان وقف النار بين إيران وإسرائيل، قبل التحقق والاستنتاج القاطع بنتائج عملياته العسكرية على البرنامج النووي الإيراني ومنشآته المحصّنة. زج دونالد ترامب نفسه في الزاوية وعلى كتفيه عبء الإثبات، فيما كان يُفترض أن يبقى عبء إثبات مصير البرنامج النووي على إيران.

أغلقت الجمهورية الإسلامية الباب كليّاً أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي في وسعها وحدها قدرة تقويم مدى الضرر الذي لحق بالمنشآت الإيرانية النووية، ووضع الطرد المركزي، وأين يمكن أن تكون إيران خبّأت اليورانيوم العالي التخصيب بعدما كانت هرّبته من المنشآت قبل العمليات العسكرية الأميركية.

هكذا قلبت طهران الطاولة، ودخل دونالد ترامب دوّامة الإثبات في معارك مع الإعلام وضد الديموقراطيين، فيما خرج مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي بخطاب الانتصار والتعالي على دونالد ترامب بغطرسةٍ وثقة عالية واصفاً ما فعله بالفشل، معتبراً أن ترامب كان "يهوّل ويضخّم" نتائج هجماته، مشدداً على توجيه صفعة للرئيس الأميركي وللقواعد الأميركية، متوعداً بأن يندم ترامب على استخدامه مصطلح "الاستسلام" المهين للثورة الإيرانية. فماذا الآن؟

جزء من المشكلة يبقى في أن دونالد ترامب يشخصن السياسة، ويقلّص القضايا الاستراتيجية إلى التكتيك السياسي، ويتصرّف بعاطفية نرجسية أحياناً، وتعجبه "البهورة"، ويتلذّذ بإبراز نفسه دائماً منتصراً، ويتبنّى أسلوب الاستفزاز والهجوم عندما يجد نفسه في الزاوية. فدونالد ترامب لا يعترف بالأخطاء وإنما يتعالى عن الإقرار بها حتى عندما تكون نتائجها مكلفة.

قد يقال حسناً فعل الرئيس الأميركي بإعلانه وقف النار بين إيران وإسرائيل بعدما ألحق الضرر- حتى وإن لم يكن دمّر- المنشآت النووية وقضى على البرنامج النووي، كما يزعم. قد يقال إن الرئيس ترامب جنّب المنطقة حرباً قابلة للتوسع والإطالة والمزيد من الخطورة، فلماذا لومه بدلاً من شكره؟ قد يقال إن مجرد وقف النار بين إيران وإسرائيل يستحق التقدير بدلاً من التشكيك.

كل هذا قد يكون صحيحاً إذا دام وقف النار باستمرار توافق الطرفين الإيراني والإسرائيلي عليه، ولو وقّع الطرفان على هدنة وقف النار وخريطة طريق إلى وقف النزاع وليس التهدئة الموقتة. ثم هناك مشكلة عضوية في تكتيك الترقيع والترتيبات الانتقالية التي تعتمدها إدارة ترامب في أكثر من ملف. هناك مشكلة في استباق الإنجازات قبل إتمامها لمجرد تمكين الرئيس الأميركي من أن يزعم أن المبادرة في يده وأنه صاحب القفزات النوعية في السياسات الدولية.

مبعوث الرئيس وصديقه ومستشاره المفضل، ستيف ويتكوف، مخيف. إنه رجل بارع وذكي يُحسن فن الصفقة ولعلّه في صميمه يكره الحروب ويريد إنهاءها كي يتمكن من تحويل بقع النزاع إلى فرص استثمار. فهو رجل مال. المشكلة أن ويتكوف لا يقرأ تاريخ النزاع ولا يعرف شخصية الذي يفاوضه. في هذه الحال لا يعرف تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومدى تمسك حكام إيران بعقيدة النظام النووية والصاروخية والتوسعية عبر الوكلاء والأذرع. لا يعرف الصبر الفارسي وحنكة المماطلة وزئبقية الالتزامات الإيرانية أثناء الأخذ والعطاء في المفاوضات. لذلك أخطأ وسيخطئ.

وللتأكيد، الحديث ليس فقط عن الجانب الإيراني من الحرب مع إسرائيل، وإنما هو عن المفاوضات الأميركية- الإيرانية قبل المواجهة العسكرية التي بادرت بها إسرائيل ضد إيران، في خضم المفاوضات. هذا يكشف أيضاً مدى ضعف تقدير السيد ويتكوف لشخصية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولؤمه وغروره ودناءة تكتيكاته السياسية عند الحاجة.

ثقة ويتكوف بنفسه وثقة ترامب به تجعلهما يرتكبان أخطاء الوعود بتفاؤل زائف، كما أخطاء إساءة قراءة رجال النظام في طهران. يصرّ هؤلاء الرجال، وراء الجدران في الغرف المغلقة وكذلك في العلن، على أن إيران لن تتخلى عن برنامجها النووي كما تتصوره مهما كان، ومهما حاول ويتكوف ترغيبها في ذلك بالمليارات أو بالكونسورتيوم.

رغم ذلك يتحدث ترامب وويتكوف بلغة الصفقة الكبرى مع إيران. رجال طهران يصرّون على استبعاد مسألة الصواريخ الباليستية ومسألة الوكلاء والأذرع المكلفة ضرب الاستقرار في دول سيادية كلما احتاجت إيران لذلك. ورجال واشنطن يفترضون أنفسهم بارعين في فن الصفقات، وأن لا حاجة لطرح المسائل الثلاث معاً في المفاوضات، وبذلك يخضعون للإملاءات الإيرانية كما سبق أن خضع الرئيس الأسبق باراك أوباما وفريقه.

يتحدّث الثنائي ترامب- ويتكوف عن العودة إلى المفاوضات مع رجال خامنئي فيما مرشد الجمهورية أوضح أن على الرئيس الأميركي التعبير عن الندم أولاً لاستخدامه مصطلح الاستسلام المهين لإيران، بل حذّر من مغبّة أن يتجرأ ترامب على مغامرة أخرى كالتي تمثلت بالضربات العسكرية للمنشآت الإيرانية.

خامنئي لن ينسى كلام ترامب عن الاستسلام حتى بعدما أجبر الرئيس الأميركي على التراجع عن حتى التفكير في إسقاط النظام في طهران.

خامنئي سجّل إنجازاً كبيراً عندما وضع في جيبه ضمانات أميركية باستمرار النظام في السلطة، عند إخراج مسرحية الانتقام الإيراني من الهجوم الأميركي تعهدت فيه طهران ضمان عدم إيذاء جندي أميركي واحد. الصفعة الأخرى تمثلت، كما تباهى خامنئي، بقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية باستهداف قواعد أميركية في قطر والعراق لأول مرة.

منطقياً، ولمجرد الجدل، إن إيران في وضع أفضل مما كان، رغم الضرر الكبير الذي أصاب منشآتها النووية. هرّبت اليورانيوم العالي التخصيب بنسبة 60 في المئة- وبعضه 90 في المئة- إلى أماكن مجهولة داخل إيران، وطردت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فلم تعد تحت سوط المراقبة. إيران تقول إنها في حاجة الى مجرد 5 أشهر لإعادة بناء برنامجها النووي. فلماذا تقبل العودة إلى المفاوضات؟

ثم أن النظام لا يخشى ضربة أميركية كبرى مجدداً لأنه مقتنع بأن دونالد ترامب لن يفعلها، أولاً لأن ذلك يكون بمثابة اعتراف بأنه لم يحقق ما زعم أنه حققه في الجولة الأولى، وثانياً لأنه يخشى التداعيات الداخلية والسياسية لتورطه في حرب مع إيران.

ما قد يحدث هو استئناف المواجهة العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية بعد أن يهدأ ترامب قليلاً. ذلك أن نتنياهو الآن في مأزق مزاج ترامب وهو في حاجة الى حساب دقيق لكل خطوة يتخذها. لكن إسرائيل لن تتراجع عن تحقيق أهدافها. وكذلك إيران. ولأن وقف النار هش، فيما نتائج الحرب الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية قيد المزايدات، فإن إمكان استئناف المواجهة وارد. ذلك أن لا إيران ولا إسرائيل أنهتا ما في ذهنهما الواحدة نحو الأخرى، والمواجهة تناسب الإثنتين.

مشكلة الرئيس الأميركي أن كلاً من إيران وإسرائيل تشعران أن دونالد ترامب ضللهما، وغشهما. إسرائيل بالذات تقع تحت ضغوط كبيرة من الرئيس الأميركي، لكنها في حاجة لاتخاذ خطوات استكمالية نحو البرنامج النووي الإيراني والصواريخ والأذرع الإيرانية.

وبالمناسبة، إن الرئيس ترامب ومبعوثه ويتكوف يرتكبان خطأً آخر في خضمّ عدم الوضوح مما هو آتٍ مع إيران. يتحدثان بلغة الصفقة الجاهزة في شأن غزة فيما يتبيّن بعد التدقيق أن الشروط ما زالت نفسها، وليس حقاً ما يؤكد أن إنهاء حرب إسرائيل على غزة بات قريباً. وليته يتحقق لأن هذه الحرب أنهكت المدنيين وباتت إبادية لأهالي غزة بمنهجية قبيحة. واقعياً، من الأفضل لو يتوقف ترامب- ويتكوف عن رفع سقف التوقعات، وأن يعلنا عن إنجازاتهما بعد التحقق منها.

وبالتالي، إن كلام ويتكوف عن اتفاقية "شاملة" مع إيران يدخل في خانة التمنيات التي تتناقض مع الأجواء الآتية من طهران. فإيران جاهزة للحديث من أجل المماطلة، وليس للتنازل من أجل الصفقة الكبرى. مجرد القراءة بين سطور التصريحات الإيرانية وكلام خامنئي تفيد بأن الأولوية القصوى هي لبقاء النظام بعقيدته النووية والصاروخية والتوسعية. وعدا ذلك مجرد كلام.

النهار - راغدة درغام

المصدر :النهار