في كلّ مرّة كان يُطلب من القاضي الشرعي الشيخ عصام محمد العاكوم للفصل في نزاع، أو للبتّ في قضيّة أسرية مُعقدة، لم يكن يبدأ بـ"ماذا يقول القانون؟"، بل بسؤالٍ إنسانيّ: "كيف نُرضي الله ونُرضي الناس، ونُبقي الودّ بين القلوب؟".
بهذه الروح، عُرِف، وبهذه الحكمة مشى بين الناس، إلى أن رحل يوم الثلاثاء في 15 تموز/يوليو 2025، عن 87 عاماً.
عرفناه على مدى عقودٍ عدة، ناصحاً ومُصلحاً، لا يُفرّق بل يُقرّب، لا يغلُظ بل يُلين، لا يتعجّل بل يُصبر، يُنزل الأحكام منزلة الرحمة، ويُقارب المُشكلات بروح الأب والمُربّي، فكان قاضياً بشرع الله، وإماماً في خُلقه، وحكيماً في فتواه.
القاضي الشرعي الشيخ عصام العاكوم، من عائلة تعود بجذورها إلى بلدة بسابا - قضاء الشوف، التي تتميز بالعلماء والقضاة والقادة والمثقفين والمُتعلمين، وفيها شخصيات لها بصماتها في طريق النجاح.
أبصر النور في العام 1938، لأسرةٍ عُرفت بالعلم والتقوى، وهو ما ربياه عليه والداه الحاج محمد سليم العاكوم ونور العين العاكوم، مع أفراد الأسرة، حيث نشأ في بيئةٍ مُتجذّرة في الدين، فأحبّ العلم الشرعي مُنذ صغره، وسار في درب العلماء العاملين، حتى أصبح واحداً من الوجوه المُضيئة في القضاء الشرعي في لبنان.
تميّز القاضي الشيخ عصام العاكوم بعلاقته المتينة مع كبار علماء صيدا، فكان رفيقاً لمُفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين، وفي العلم والقضاء مع القاضيين الراحلين الشيخ أحمد الزين والشيخ محمد دالي بلطة، وصاحب مشورة مع رئيس دائرة أوقاف صيدا - آنذاك - الشيخ سليم سوسان.
ساهم مع العلماء، بتشكيل طليعةً دينية إصلاحية في صيدا ومنطقتها، بالتصدي للفوضى الأخلاقية، وحماية المُجتمع من التفتّت، فكانوا الملجأ حين تغيب الدولة، والرأي حين يُغيب القانون، والخطبة حين يصمت المنبر.
لم يكن القاضي الشيخ عصام العاكوم من الذين ينشغلون بخدمة الناس وينسون بيوتهم، بل ربّى أبناءً ساروا على نهجه، ومنهم من تخصّص في العلوم الشرعية، القانون، الصحافة، الهندسة، العلوم الاجتماعية، والمُساهمة بمجالات علمية، والتعليم الجامعي، والتربية وخدمة المُجتمع.
وهكذا، امتدّ الأثر الطيب من محراب المسجد، إلى صفحات العلم ومنابر التربية.
فلم يكن القاضي الشيخ عصام العاكوم شخصاً يُذكر اسمه ويُنسى، بل نُواة بيتٍ ما زال ينبت بالخير والعلم والخلق.
عاش القاضي الشيخ عصام العاكوم، تجربة القضاء لا كوظيفة، بل كمسؤولية.
لم يختبئ خلف النصوص، بل قرأها بعين الحريص على الناس ومصالحهم، فكان حين يُطلب منه حلّ نزاع عائلي، يخرج وقد أصلح، لا فقط أصدر الحكم.
في زمنٍ يجري فيه الحديث عن إصلاحات في مُؤسسات الدولة والمال والمصارف، نسي كثيرون أن القضاء الشرعي والمدني، هو حامي تماسك المُجتمع، وأن دور القاضي يشمل:
- النصح قبل الفَصل.
- إحياء المودّة قبل إنفاذ الطلاق.
- تثبيت الحقوق من دون إشعال فتيل الخصومة.
- زرع التراحم في قضايا الميراث.
وهذا ما فعله القاضي الشيخ عصام، الذي جمع بين الشرع والعقل .. والعدل والرحمة.
في وداع القاضي الشرعي الشيخ عصام العاكوم، لم تُرفع فقط الفواتح، بل رُفعت الأكفّ بالدعاء، لأنه كان من الذين انتفع الناس بعلمهم، وتركوا في الأرض من يشهد لهم، وفي السماء من يدعو لهم.
رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، وجعل من أبنائه وأسرته وعائلته امتداداً لرسالته النبيلة.