أفتّشُ في مفكّرات الأعوام العشرة الّتي مضت، أحصي الأيام بساعاتها ودقائقها وأجزاء ثوانيها... عشر سنوات وأنت لست هنا. عشر سنوات وأنت ما زلت هنا...
ليس تناقضاً ما أقول، فقبل عشر سنوات، حين أغمضتَ عينيك الإغماضة الأخيرة، بدأ الصراع في داخلي: بين قبول حقيقة موتك والرفض. أعرف أنّ هذا الصراع يرفضه التّسليم بقضاء الله وقدره؛ فاصفح عنّي يا أبي: لأنّ نبضات قلبي الذي تحوّل عدّاد غياب قسمت حياتي شطرين: قبل رحيل أبي وبعد رحيله، وهيهات أن يتّفق القبل والبعد... وهيهات لقلمي أنْ يترجم أفكار قلبي.
لكن الإيمان انتصر: الإيمان الذي ورثته عنك كما ترث الأرض حبّات المطر فتنبعث فيها الحياة.
انبعث الإيمان / إيمانك في داخلي وقبلتُ فكرة الموت: فإنّا لله وإّنّا إليه راجعون، لكن حضورك القوي لم تقوَ عليه الأيّام كما لم يقوَ عليه موت الجسد.
انتصر الإيمان لكن الأجفان التي انطبقت أمام ناظري تفتّحت في قلبي وقلوب محبيك إلى الأبد.
***
ومرّة جديدة أخوضُ مغامرة الكتابة في ذكراك فأعيش الفرح والحزن: الحزن لأن غيابك موضوع الكتابة والفرح لأنّي سأشارك النّاس تجربتي الفريدة: حياتي في كنفك.
لقد قضى أبي عمرَهُ في لبنان، المتعدّدِ الدياناتِ والثقافاتْ، وطوالَ سنواتِ حياتِهِ التي قاربت قرناً منَ الزمن، عَرَفَ بلدُنا أياّم رخاءٍ كما عرف أيّاماً عجافاً، وقد كان شاهداً على الكثيرِ من الأحداث، بحكمِ مواقعِهِ المختلفةِ في القضاءِ والإفتاء، وقد كان في أيّامِ الرّخاءِ كما في أيّامِ الشدّة هو هو: رجل الدين، القاضي، المفتي، العالم العلاّمة، الذي يجمعُ ولا يفرّق، مؤمناً، متواضعاً، مستقيماً، خلوقاً، متمسّكاً، بعقيدته، منفتحاً على العقائد (كل العقائد)، معتدلاً، شجاعاً من دون عنف، صلباً حين يحتاج الموقف صلابةً، ليّناً، يتكلّم حين يكون الكلام مسموعاً، ويلتزم الصّمت حين يكون الصّمت سلاح المرحلةِ الأمضى.
ولأنّه أعطى للقضاء هيبته، وللإفتاء مكانته... فقد كان أباً للجميع، ويمكنني القول إنّه كان مفتياً للوطن، فقد تجاوز الإفتاء معه حدود الطائفة والمساحة الجغرافية الضيّقة ليتربّع على مساحة البلد الذي أحبّ... ومواقفه خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي تشهد على ذلك.. لقد كان قدوة للناس في الصمود والثبات والمقاومة...
وهنا أسمح لنفسي أن أقتبس المقطع التالي من مقالة نشرتها صحيفة "السفير" بتاريخ 30/4/2007 بقلم دولة الرّئيس نبيه برّي: "كعادتك أيها الشيخ تكاد تكون نهاراً في هذا الوطن الليل. كعادتك لا تنصرف إلى جهات الغابة، حيث يميل البحر على اليابسة بخشونة، وحيث لا يلاطف الربيع الوقت، وحيث لا تدق الذكريات على باب الذاكرة. كعادتك بقيت على مسرح المقاومة تقف شامخاً على أرضها ترفض أن يتحوّل انتباهك عن صيدا وعن صور وعن كل الجنوب إلى الجهات الحبلى بالطائفية والمذهبية والفئوية... كعادتك بقيت متأهّباً على سلاح الصمت ترفض أن تبعثر الكلام على محاور الحروب الصغيرة التي توزع وتتوزع على الوطن. كعادتك مثل الضوء كنت: صريحاً مباشراً...".
وقبل الاحتلال وخلاله وبعده كان جامعاً في مواقفه، جامعاً في داره التي لم تكن يوماً طرفاً في صراع بين أبناء الوطن الواحد والمدينة الواحدة، كبر هذا الصراع أو صغر... لقد كان الأبناء يتخاصمون إلا تحت عباءته...
ولأنّه من تلك الطّينة النادرة فقد استطاع أن يؤدّي واجب المجتمع دون أنْ يغفل بيته الصغير وعائلته.
فقد كان يتّصل - رغم انشغالاته بقضايا الناس - ليطمئنّ على ابنته المريضة، والتي تغمرها السعادة حتى لتكاد تشفى من مرضها... وكان يحضّر قهوة الصباح لزوجته، ويقدّر المرأة ويشجّعها ويطلقها كما الرجل إن لم أقل أكثر.
وقد أدخل الإيمان إلى قلوبنا جميعاً بالكلمة الحسنة والقدوة الصالحة، وشجّعنا على خوض غمار العمل الاجتماعي وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يسأل ويشجّع ويبارك...
وفي هذا الزمنِ الذي يحيطُ بنا فيهِ التطرّفُ الأعمى، صارَ لزاماً علينا ألا نتذكّر هذه القامات مرّة واحدة في السنة فحسب، بل أنْ نكرّس نهجهم الجامع أسلوبَ حياةْ وبرنامجَ تربية وطنيّة.
* كريمة مفتي صيدا والجنوب السابق المرحوم الشيخ محمد سليم جلال الدين