تحلُّ الذكرى الـ69 لنكبة فلسطين (15 أيّار/مايو 1948)، وما زال الشعب الفلسطيني يُعاني من الإحتلال الإسرائيلي، ليكون صاحب أطول فترة احتلال ولجوء، وكثيراً ما نسمع ادّعاءات بأنّ الفلسطينيين قد باعوا أرضهم، أو أنّ العرب قد دعوا الفلسطينيين للخروج من ديارهم..
لكن مَنْ يتمحّص بالتاريخ، ويغوص بالوثائق والمستندات، يكتشف الحقيقة التي تدحض الادعاءات الصهيونية بخروج الفلسطينيين من ديارهم بقرار عربي..
هذا ليس ادّعاء ولا محاولة تبرئة، وليس ذرّاً للرماد في العيون، بل مقرون بالوثائق الدامغة التي تثبت عكس ذلك، وهي ممَّنْ كان مطّلعاً بشكل دقيق وواسع على الوثائق، وهو أمين عقل، (الذي كان يشغل منصب سكرتير "اللجنة القومية" لـ"يافا" التي تألّفت عقب قرار تقسيم فلسطين الصادر عن "هيئة الأمم المتحدة" (29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947) ممثّلة للهيئة العربية العليا، أعلى هيئة سياسية عربية في البلاد، التي يترأسها الحاج أمين الحسيني) ووالد عضو المجلس الوطني الفلسطيني باسل عقل، في كتاب صدر عن "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" من إعداد وتحرير أمين عقل وتقديم وليد الخالدي..
لقد راجت رواية الدعاية الصهيونية بأنّ نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين عن وطنهم خلال نكبة العام 1948، ما كان بتدبير صهيوني، وإنّما تلبية لأوامر صدرت عن القيادة العربية ذاتها (الهيئة العربية العليا واللجان القومية والحكومات العربية) إلى الشعب العربي الفلسطيني بأنّ "أخلوا مدنكم وقراكم لفسح المجال للجيوش العربية النظامية الغازية فور انتهاء الانتداب".
هكذا بكل بساطة أعفت الصهيونية نفسها عن كل ما اقترفت، وهكذا تقبّل الرأي العام البريطاني أكاذيب الصهيونية، واستساغها لدوافع متعدّدة.
إشاعة كاذبة
وبعد زيارة قام بها الخالدي إلى أمين عقل في مكتبه بإدارة فلسطين في الأمانة العامة للجامعة العربية بالقاهرة في أوائل تشرين الأوّل/أكتوبر 1957، وطرح عليه استفسارات عن صحة الشائعات القائلة بأنّ "الحكومات العربية والهيئة العربية العليا أصدرت أوامرها إلى اللجان القومية في فلسطين أواخر سنة 1947 أو خلال سنة 1948 لإخلاء المدن الفلسطينية من سكانها بقصد عودتهم في ما بعد في أعقاب الجيوش العربية"، فأرسل مذكّرة بتاريخ 18 تشرين الأوّل/أكتوبر 1957 يُجيب عليها عن الاستفسارات، بصفته سكرتير "اللجنة القومية" في مدينة يافا - في ذلك الحين، ليؤكد أنّ "هذه الشائعة كاذبة وباطلة ولا أساس لها من الصحة، والعكس هو الصحيح".
ويقول عقل حرفياً: "إنّ الحكومات العربية وافقت على اقتراح "الهيئة العربية العليا" بناءً على طلب "اللجنة القومية" بيافا، وهو يقضي بمنع سكان فلسطين من مغادرة المدن والقرى فيها إلا لأسباب قاهرة، كالمرض ولدواعي المصلحة العامة، وذلك بإذن خاص من "اللجنة القومية" في البلد الذي يطلب فيه السكان السفر إلى خارج البلاد. وبقدر ما يتعلّق الأمر بأهالي يافا، كانت القنصليات العربية في فلسطين ترفض إعطاء سمة السفر إلى أي مواطن عربي ما لم يقدّم لها شهادة من اللجنة القومية تبرّر خروجه".
ويستطرد عقل بالقول: "إنّ "اللجنة القومية" أنشأت مراكز مسلّحة في منافذ المدينة الخارجية للمراقبة وتنفيذ أوامر منع السفر إلا بالشروط المذكورة، وإنّ مدينة يافا "ظلّت تعجّ بسكانها" بسبب نزوح سكان الأمكنة الملاصقة لتل أبيب إليها، وإنّ "اللجنة القومية" أمكنها تأمين "كميات هائلة" من المؤونة عن طريق البحر، وإنّ الحالة التجارية انتعشت في المدينة "نتيجة لحركة الاستيراد عن طريق البحر"، وإنّ الأمن داخل المدينة استتب بسبب شراء "اللجنة القومية" كمية ضخمة من الذخيرة من الجيش البريطاني بلغت مليوناً من الطلقات المعبّأة في ألف صندوق، وإنّ مصانع المدينة أمكنها أنْ تصفّح عدداً من السيّارات بدروع قوية".
أمّا كيف ولماذا تبدّل الحال؟!، فيشير أمين عقل إلى دخول "عنصر جديد في المعركة لم يكن في الحسبان، ولم يستطع السكّان مقاومته أو الرد عليه، وهو ضرب المدينة من تل أبيب بمدفعية "مورتر" الثقيل ليلاً، ونهاراً لأيام عديدة، ضرباً طائشاً أعمى لا هوادة فيه ولا غاية له سوى قتل أكبر عدد ممكن من السكان في أحيائهم المكتظة وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم.."، ونظراً إلى "وقوف ممثّلي الحكومة البريطانية أمام هذا المشهد يتفرّجون دون أنْ يحرّكوا ساكناً"، وكذلك "لعدم وجود مدفعية مضادّة ونظراً لأنّ "اللجنة القومية" استجارت بالحكومات العربية المجاورة ولا من مجير، وقع الذعر بين السكّان المدنيين وشلّت حركتهم وفقدوا الأمل في الإنقاذ، فاضطرت "اللجنة القومية" تحت ضغط هذه الظروف أنْ ترفع الحظر المفروض على الخروج من المدينة لسلامة المدنيين العُزّل وللنجاة بأرواحهم".
هذا نموذج من توضيح للحقيقة التي عمد الاستعمار والعصابات الصهيونية إلى تشويهها وتعميمها، وتناقلها الكثر، فحقّقت الغاية التي بثّت لأجلها مثل النار في الهشيم!
فكم نحن بحاجة إلى سبر الأغوار واستخراج الحقائق الدامغة؟!
غلاف كتاب الوثائق الرئيسية في قضية فلسطين