كالصاعقة وقع علينا نبأ رحيل عميد "اللـواء" الأستاذ عبد الغني سلام، وكأنّ قلبه قد تعب من حالة التشرذم التي يشهدها العالم العربي والإسلامي.
عميد "اللـواء" البيروتي الأصيل.. اللبناني الهوية.. والفلسطيني الهوى.. والعروبي الإنتماء.. والمسلم الملتزم.
وعى منذ نعومة أظفاره المخاطر على القضية الفلسطينية، التي وُلِدَ قبل وقوع نكبتها، لذلك، لا غرو أنه كان في طليعة المناضلين لأجلها في مجالات متعدّدة وفي شتى المجالات.
شكّلت مكاتب دار "اللـواء" مركزاً رئيسياً لعقد اجتماعات سريّة في البداية التي سبقت انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكانت مطابع "اللـواء" تُصدِر بيانات الثورة، في وقت كان مجرد ذكر إسمها تهمة يُلاحَق بها عليها، ويُعاقب من قِبل السلطة في لبنان والكثير من البلدان العربية.
لقد شكلت صفحات "اللـواء" منبراً للقضية الفلسطينية، وقد صدر البيان رقم (1) بانطلاق "قوّات العاصفة" والثورة الفلسطينية من على صفحات "اللـواء" (كانون الثاني/يناير 1965).
كما كان لها دور هام في مأسسة مؤسّسات "منظّمة التحرير الفلسطينية"، وفي طليعتها "الصندوق القومي الفلسطيني" لدعم الثورة الفلسطينية وشهدائها وجرحاها وأسراها والمناضلين من أجلها.
منذ أنْ بدأتُ العمل في "اللـواء" في العام 1986، تلقيتُ التشجيع الكبير من عميد "اللـواء" الأستاذ عبد الغني سلام، ومن رئيس التحرير الأستاذ صلاح سلام، اللذين فتحا آفاق صفحات الجريدة، وأطلقا الأقلام في الدفاع عن قضايا الجنوب وفلسطين، وكان إصدار "لـواء صيدا والجنوب" منبراً ينقل معاناة وهواجس الجنوب، الذي كان قسم كبير منه يرزح تحت الإحتلال، بما يشمل مخيمات الشتات فيه ومعاناتها.
تعدّى دور عميد "اللـواء" الشق الإعلامي للعب دور سياسي كبير تركز على تحقيق المصالحات بين القيادات الفلسطينية عندما تختلف، وفي نسج علاقاتها مع التيارات اللبنانية، والزعماء والقادة العرب، وفي مقدّمتهم الرئيس جمال عبد الناصر.
كانت فلسطين بالنسبة إليه، الهم الأكبر، فهي قضية العرب والمسلمين المركزية، وتهون أمامها جميع التضحيات فضمّد جراح الشعب المعذّب، وقدم الكثير من جهده وماله ووقته ونشاطه خدمة للقضية الفلسطينية.
إمتاز بأنّه صحافي مميّز وإعلامي بارز ولامع، صاحب موقف صلب لا يحيد عنه قيد أنملة، محاور صلب، وسياسي مقدام، واجتماعي محبّب، وعامل ومؤسِّس للخير، ونصير للمظلومين، ومدافع عن المستضعفين، مدرسة في الوفاء في زمن قلَّ فيه الأوفياء وكثر المتسلّقون والطاعنون.
لم يسع يوماً إلى مركز أو منصب، رفض كل ما عُرِضَ عليه، لأنّه كان يؤمن بأن استقلاليته تمكنه من أنْ يقوم بإصلاح ذات البين، وقد قام بذلك فعلاً في أصعب الظروف وأحلكها، فكان يجمع المتخاصمين من أجل مصلحة القضايا الإسلامية والوطنية والقومية، فكرّس خط الاعتدال الذي جسّده فينا.
"يا إبني" كلمة سمعتها من عميد "اللـواء" مراراً وتكراراً، وكان يعني ما يقول، فقد كان أباً لنا جميعاً، نلتجئ إليه في الملمّات واللحظات الدقيقة والمفصلية.
كانت وبقيت فلسطين قبلته، وأذكرُ يوم حملتُ إليه هدية رفيق نضاله، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهي عبارة عن مسبحة من أحجار القدس وبألوان العلم الفلسطيني، فإذا بها لا تفارق يدي عميد "اللـواء" وهو يسبّح ويبتهل إلى الله سبحانه وتعالى.
اليوم يرحل العميد، وقد عادت القضية الفلسطينية لتتصدّر الاهتمامات، بعد فترة من بروز قضايا وأحداث في أكثر من قطر عربي.
وبرحيله تخسر القضية الفلسطينية نصيراً ومدافعاً عنها في شتى المجالات، ونحن نخسر والداً كان يشعرنا بمعنى الأبوّة.
ستبقى فلسطين تحفظ إسم العميد عبد الغني سلام، الذي عمل وناضل من أجلها، كما لبنان، الذي ظلَّ الروح بالنسبة إليه، والقضايا الوطنية والقومية والعربية والإسلامية، بحكم الروابط والاعتبارات التاريخية والأخوية، فقد آمن بأنّ الحق لا يمكن أنْ يُمنح بل يؤخذ بالنضال والثورة والمقاومة.
اليوم ترحل.. وتترك الأمانة بأيدٍ أمينة، على الإسلام والعروبة والوطن والقومية والإعتدال..
رحمك الله عميد "اللـواء" وأسكنك فسيح جنانه.