لمّا كان رئيسَ حكومة فلسطينية، في عام 2008، نشط سلام فيّاض في إشاعة ما كان يسمّيها "مقاومةً سلميةً ونوعية" للاحتلال الإسرائيلي، تقوم على أن ينهض الفلسطينيون بمقدّراتهم الذاتية، الاقتصادية خصوصا، ما أمكن. وعمل على تعزيز مؤسسات الدولة الفلسطينية، قبل قيامها، وعلى تحسين خدمات التعليم والصحة للسكان، وتطوير البنية التحتية، والتخفيف من هموم الحياة اليومية. وفيما كان يرفض أي مقاومة مسلحة، بل انفرد، من بين كل القيادات الفلسطينية، بتعزية عائلات جنود إسرائيليين قتلوا في هجمات فلسطينية، كان أيضا يقود بنفسه وشخصه مظاهراتٍ ضد بيع منتجات المستوطنات، ويشارك في حرقها. وقد سمّاه شيمون بيريز، مرة، "بن غوريون الفلسطيني". وفي الأثناء، نشطت ضده حملاتُ أوساطٍ سياسية وإعلامية إسرائيلية لم تستحِ من نعته متطرّفا.
يذكّر بـ"تطرّف" سلام فياض ما صار يُقرأ، منذ أيام، في الصحافة الإسرائيلية عن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات "إرهابيا".. هكذا من دون تحرّز أو عدّ للعشرة، ينعته بهذه المفردة (الشتيمة) كاتبٌ في "معاريف"، أول من أمس، كما فعل غيره في "يديعوت أحرونوت"، بمواكبةٍ من إسرائيليين غير قليلين في وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك كله لأن الرجل مسجّلٌ في مستشفى إسرائيلي على لائحة من ينتظرون تبرعا برئتين، بعد أن تفاقم عليه مرضه "التليف الرئوي"، شفاه الله. ينفي كاتب "معاريف" العنصرية عن مطالبات الامتناع عن علاج المسؤول الفلسطيني، فالعرب في إسرائيل، بحسبه، ينعمون بخدمات الجهاز الصحي الإسرائيلي، وإنما المسألة، في زعمه، تعود إلى شخص عريقات الذي "بيدٍ واحدةٍ يحاربنا وباليد الثانية يطلب منا إنقاذه". وعندما تقرأ هذا الكلام تستغربه، إذا كنتَ ممن يدرجون عريقات بين المتنازلين المفرّطين "الأوسلويين"، وهو الذي لم يملّ، أكثر من عشرين عاما، من اللقاءات بالإسرائيليين ومفاوضتهم. أما إذا كنت من أهل القناعة بأن الأستاذ الجامعي السابق، والنائب والوزير الفتحاوي، لم يكن في جلساته مع أولئك يلعب النرد، وإنما يماحكهم ويساجلهم ويأخذ ويعطي معهم، عساه يحقّق ما يدأب على تكراره، أي ما أسمَعَه، أمس الأربعاء، لدبلوماسيّين أوروبيّين وآخر أميركي، عن استحالة تحقق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط من دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي حتى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
لا يكفي أن يُقال هنا إن دولة الكيان العنصري المحتل لا تُمايز في نظرتها إلى الفلسطينيين، بين من يحملون السلاح في مقاومتها ومن لم يطخّ في حياته رصاصة، كما "المتطرّف" سلام فيّاض و"الإرهابي" صائب عريقات. هذا كلام جائز، ولا تحتاج عنصرية إسرائيل إلى شواهد، وقد جدّ منها، أول من أمس، أن رئيس الدولة، رؤوف ريفلين، كافأ فريق بيتار القدس لكرة القدم، المشهور بعدائه العنصري ضد العرب، وبقاعدته اليمينيّة المتطرّفة، بجائزة "مكافحة العنصرية" (!). .. ليست قصة رئتي صائب عريقات دليلا على هذا الأمر المعلوم فقط، وإنما أيضا تأخذنا إلى موضوع آخر. في النقاش الفلسطيني الداخلي تحديدا، إنها ترشدنا إلى أن تكون أساليب خلافنا مع بعضنا على غير التشنّج الظاهر فيها، ومن دون أي استخدام لخطابات التخوين والمزايدة وتوزيع الوطنيات وحجبها. لم نسمع يوما من صائب عريقات أي خروجٍ عن الخط الوطني الفلسطيني الملتزم بنهج منظمة التحرير، ولو فرّط أو تنازل عن القدس وغيرها لما انتهت مفاوضاته الطويلة مع ممثلي يمين إسرائيل ويسارها إلى لا شيء، إلى حيث لا انحراف عن مطلب إنهاء احتلال 1967، ولا غادر العدو اعتصامه بإبقاء الاحتلال والاستيطان. أما عن سوء الأداء السياسي والإعلامي في غضون جولات التفاوض، معطوفا على انكشاف الحال الفلسطيني التعيس، فلنا ألا نرحم صائب عريقات وجميع المفاوضين، وهو كبيرهم في منظمة التحرير، منذ مؤتمر مدريد وصولا إلى ما قد تسلّي نفسَها به إدارة دونالد ترامب من "أجواء سلام" سخيفة غير مستبعدة.
ولكن، فعلا، ما الذي يضطّر صائب عريقات إلى زرع الرئتين في مستشفى إسرائيلي؟ أليس في الوسع أن يُؤمّن شفاؤُه، المنتظر إن شاء الله، في أيٍّ من مطارح الدنيا الواسعة.. سؤال طرحه العنصريون الصهاينة هناك، صدورا عن موقفٍ عدواني مرذول. ولكن، صدورا عن احترام الرجل، يجوز، هنا، طرح السؤال، بمحبّةٍ مؤكّدة طبعا.